المصدر /// https://www.argaam.com/ar/article/ar...ail/id/1537321
يحبس المحقق متهمين، كل منهما في حجرة منفصلة، ولأنه لا يملك أدلةً كافيةً على أي منهما لإثبات الجريمة، يبدأ في المساومة: اعترف بالجرم تخرج حرًا من هنا، ليتحمل شريكك المسؤولية كاملة.
والخيارات المتاحة أمام كل متهم هي: إما أن يشهد على المتهم الآخر أمام القاضي، أو أن يلتزم الصمت، ولكل خيار أثره عليه، وعلى المتهم الآخر أيضًا.
ففي حال آثر المتهمان الصمت، لا تستطيع المحكمة إثبات التهمة على أي منهما، ليحكم على كل منهما بالسجن 6 أشهر فقط، أما لو شهد أحد المتهمين على صاحبه والتزم الأخير الصمت، يخرج الشاهد دون حبس ويُحكم على الآخر بالسجن 10 سنوات.
وفي المقابل إذا اختار كلا المتهمين أن يشهد على الآخر، يحكم على الاثنين بخمس سنوات من السجن.
سوق الأسهم والسجينين
ولهذا السبب يحبس المحقق المتهمين في غرفتين منفصلتين، ليضمن ألا يعلم أيهما بقرار الآخر أثناء التحقيق معه، بما يضمن له نتيجة أفضل إذا قرر أي منهما الاعتراف على الآخر أو حتى قرر الطرفان الاعتراف.
هذه الصورة لتصوير الاحتمالات وأثر التداخل في القرارات هي أحد أبرز تطبيقات نظرية الألعاب وتعرف باسم "معضلة السجينين".
فلو اتخذ كلاهما القرار المنطقي، وهو الاعتراف، لأن ذلك يضمن له الحرية أو السجن 5 سنوات، بينما الصمت يضمن له السجن 6 أشهر أو 10 سنوات، فسينتهي بهما الأمر في السجن 5 سنوات بينما لو اتخذا القرار غير العقلاني بالصمت فسيخرجان بعد 6 أشهر فحسب.
وعلى الرغم من غرابة التشبيه إلا أن أسواق الأسهم كثيرًا ما تتشابه مع معضلة السجينين، في ظل شح المعلومات عن قرارات الأطراف الأخرى في السوق.
وقد يعترض البعض على الحديث عن "شح المعلومات"، في ظل تأكيد علم النفس السلوكي أن عنصرًا من أشد عناصر إرهاق المتعاملين في الأسواق هو كثرة البيانات التي عليهم التعامل معها، بما يجعلهم في النهاية يلجؤون لأسباب غير منطقية متعلقة بالحدس والتجربة فحسب لاتخاذ قراراتهم.
والمقصود بالمعلومات الشحيحة ليس بيانات أداء الشركات أو مستويات فتح السوق أو إغلاقه وما إلى ذلك، ولكن التساؤل حول ما سيفعله المتعاملون الآخرون بناء على تلك المعلومات، ومتى سيتخذون قراراتهم تحديدا.
فإذا ارتفع سهم ما 5% في جلسة تداول واحدة، بينما ارتفع آخر بنسبة 3% فحسب في نفس الجلسة، فإن بعض المتعاملين قد يقررون بيع السهم الثاني لشراء الأول، إذا اعتقدوا باستمرار الاتجاه الصاعد السريع.
وبالتالي فعلى الرغم من أن السهم الثاني صاعد إلا أن رغبة المتعاملين في تعظيم المكاسب قد تدفع بعض المتعاملين لبيعه وشراء سهم آخر "يعتقدون" بقدرته على تحقيق مكاسب أكبر، بما يكسر منحنى السهم الثاني الصاعد لحساب استمرار وتدعيم سهم المنحنى الأول الصاعد.
"ماسك" وتجنب المعضلة
ولعل ما فعله "إيلون ماسك" عندما قرر بيع بعض أسهم "تسلا" بمليارات الدولارت خلال شهر نوفمبر 2021 كان بمثابة وسيلة لتفادي مشكلة معضلة السجينين بالتعامل مع السوق وكأنه الطرف الثاني.
فـ"ماسك" كان بحاجة لسيولة بالمليارات لسداد ضرائب الأرباح، وقام بعمل استطلاع على صفحته على "تويتر" حول ما إذا كان ينبغي عليه بيع بعض أسهمه في شركة "تسلا" أم لا، وجاءت النتيجة بطبيعة الحال بـ"نعم".
فهنا تجنب "ماسك" –بذكاء- أي تخمينات تتعلق بدوافع بيعه –أو تخلصه- من أسهم "تسلا" وأوصل للسوق رسالة طمأنة، بل حتى جعل البيع متعلقًا برغبة المتعاملين أنفسهم بما جنب الشركة "سوء تواصل" مع السوق قد يتسبب في تراجع كبير لسعر أسهمها.
المستثمرون الفرديون و"جيم ستوب"
وكمستثمرين فرديين، يمكن للأفراد تطبيق بعض جوانب نظرية الألعاب أثناء المشاركة في سوق الأوراق المالية، حيث يستخدم التحليل الفني لتقييم حركة الأسعار ومراقبة الأنماط بناءً على البيانات الإحصائية التاريخية للعثور على فرص تداول في أسواق المال.
لكنّ محللي الأسهم لا يقصرون بحثهم على التحليل الفني أو الأساسي، بينما يتخذ المستثمرون الأفراد قرارات قصيرة المدى بناءً على هذه الأنماط في كثير من الأحيان.
وعندما يتم وضع المستثمرين الأفراد في مواجهة مستثمرين مؤسسين كبار، فإن العوائد المتوقعة للأفراد تعتمد على القرارات التي يتخذها عدد كبير من اللاعبين في السوق.
وتماماً كما يشمل جدول الاحتمالات الذي تم إنشاؤه في نظرية الألعاب، يشمل سوق الأسهم انقسام قرارات المستثمرين الأفراد وشركات أبحاث الأسهم أو البنوك حول بيع أو شراء الأسهم.
ويقوم الأفراد باتخاذ قراراتهم بناءً على القيم المتوقعة التي يكسبونها أو يخسرونها عندما يتم أخذ جميع الاحتمالات في الاعتبار، مع مراعاة تغير الأسعار بناءً على هذه القرارات.
وهذا ما يفسر، على سبيل المثال، كيف ارتفعت أسعار أسهم "جيم ستوب GameStop" " وتضاعفت قيمتها بشكل استثنائي في غضون فترة زمنية قصيرة، حيث تمكن عدد كبير من المستثمرين الأفراد من تضخيم سعر سهم شركة ضعيفة بشكل أساسي عبر اتخاذ قراراتهم في تناغم مثالي، مما تسبب في تغير أسعار السوق بصورة متقلبة.
ويمكن القول هنا بأنه في حالة "جيم ستوب" تم تحويل السوق من حالة منافسة أو حتى صراع إلى حالة من التنسيق الذي دفع السلطات الأمريكية للتحقيق في مدى قانونية ارتفاعات سهم الشركة وإذا ما كانت تمت بشكل قانوني أم لا، وكذلك تأثير موقع "ريديت" في التنسيق بين المتعاملين على السهم بشكل غير قانوني.
هل الأسواق لعبة صفرية؟
في نظرية الألعاب يوجد ما يعرف باللعبة الصفرية، ويقصد بها إن خسارة طرف في اللعبة هي مكسب للطرف الآخر بالضرورة والعكس بالعكس، وسميت لعبة صفرية لأن الخسارة لطرف (وإشارتها سالبة) تساوي المكسب للطرف الآخر بما يجعل محصلة جمعهما صفرًا.
فلو ألقى شخص عملة معدنية على أن يربح هو إذا كانت الصورة ويربح منافسه إذا جاءت على الكتابة، فإن أحدهما بالضرورة رابح والآخر خاسر.
وفي هذا الإطار، غالبًا ما يُنظر إلى سوق "العقود الآجلة والخيارات" على أنه نتيجة لهذه النظرية، حيث تشكل خسارة أحد المستثمرين مكسبًا لمستثمر آخر.
وقد ينطبق ذلك بشكل عام في سوق الأسهم في بعض الحالات، فعندما يبيع شخص سهم شركة في قمته، فإن آخر اشتراه بالضرورة وتكبد خسارة بعد ذلك، أي أن خسارة المشتري جاءت لتحقق مصلحة البائع، والعكس مع البائعين في قيعان السوق.
ولكن الأمر ليس بهذه البساطة، ففي بعض الأحيان قد يشتري شخص سهمًا بـ5 دولارات مثلا، ليبيعه لشخص آخر بعد ارتفاع سعره لـ10 دولارات، ليبيعه الثاني بعد ارتفاع سعره لـ15 وهكذا في ظل مؤشر صاعد ليبدو "الجميع رابحين".
تكلفة الفرصة المفقودة
لذا يرى البعض أن الاستثمار طويل الأجل يؤدي إلى ظاهرة "المحصلة الإيجابية" أو "المحصلة السلبية"، مما يسمح بتراكم الثروة والتحسين اللاحق في الإنتاج والادخار والاستثمارات في المستقبل، الأمر الذي يعني أن جميع اللاعبين في السوق يمكن أن يكونوا "رابحين" أو "خاسرين" على المدى الطويل.
ولكن هذا الأمر يبدو قاصرًا عن تبيان الحقيقة، فهناك "تكلفة فرصة مفقودة" لمن باع السهم عند 10 دولارات ولم يستمر في امتلاكه فترة أطول في ظل ارتفاع سعري مستمر، ولا سيما إذا استثمر النقود التي حصّلها من بيع الأسهم في أسهم (أو أي استثمار آخر) بعوائد أقل.
كما أن الأسهم الصاعدة، أو حتى السوق بالكامل، قد تؤشر لمكاسب يحققها المتداولون في البورصة، ولكن قد يكون ذلك على حساب تقليص السيولة في الأسواق بشكل عام، كما يحدث في العديد من الاقتصادات النامية عند الطرح الأولي لأسهم شركات تحظى بقبول كبير بين المتعاملين في السوق.
هل من استراتيجية "مهيمنة"؟
وكثيرًا ما يعتقد المتداولون أنه من أجل تحقيق أقصى استفادة من نظرية الألعاب، فإنهم بحاجة إلى فك شفرة ما يعرف بـ"الإستراتيجية المهيمنة" والتي تفيدهم في سوق الأسهم.
وتعرف "الإستراتيجية المهيمنة" بأنها تلك التي تؤدي إلى أعلى مردود، مع الأخذ في الحسبان جميع القرارات المحتملة الأخرى التي يمكن لأحد اللاعبين اتخاذها.
ومع ذلك، فإن هذا أمر غير ممكن أبدًا، تمامًا مثلما يندر رصد نقطة 'توازن ناش' في سوق الأسهم (نقطة 'توازن ناش' هي حيث لا يرغب اللاعبون في تغيير قراراتهم لأن نتائجهم لن تتأثر بقرارات الأطراف الأخرى في تلك المرحلة).
ومن ثم، نجد درجة أكبر من التقلب وعدم اليقين في أسواق الأسهم، حتى خلال فترة قصيرة تبلغ ستة أشهر.
لعبة العواطف
قد لا يتلاءم سوق الأسهم تمامًا مع نظرية الألعاب، ولكن هناك بعض الاستراتيجيات التي يجب أن يكون المتداولون على دراية بها لـ"البقاء على قيد الحياة" في هذه اللعبة، كما تشير دراسة " Modeling the Stock Market Through Game Theory".
على سبيل المثال، تشكل "لعبة العواطف" استراتيجية مهمة في سوق الأوراق المالية، حيث تكون المعلومات المتاحة للجمهور عاملاً رئيسيًا يؤثر على التداولات.
فعندما تنشر مؤسسات عملاقة في مجال تحليل أسواق الأسهم توقعاتها لمستقبل قطاع بعينه، يصبح المستثمرون على دراية بأن المعلومات ذاتها متاحة للجميع، وبالتالي يتحركون بناء على توقعاتهم على تأثير تلك التوقعات على تحركات بقية المستثمرين سواء بالبيع أو الشراء أو الاحتفاظ.
وعلى الرغم من أن متداولًا معينًا قد لا يتفق بالضرورة مع التحليل الذي نشرته الشركة، إلا أنه سيتعين عليه المضي قدمًا في اتجاه تقوده معنويات غالبية السوق، على الأقل، على المدى القصير.
وهنا يجب التأكيد على أن السوق تختلف عن نظرية الألعاب الكلاسيكية في أنها ليست لعبة "استاتيكية" بل "ديناميكية" بمعنى أنها لا تشبه رمي العملات المعدنية ولكن أقرب منها للشطرنج، أي أنها ليست "لعبة مرة واحدة" ولكن مرات ومرات، وليست محض حظ.
ولذلك يعتبر المستثمر الشهير "جيمس تشانوس"، أنه ليس عليك أن تكون قائدًا للسوق في كل مرة، ولكن من المحتم عليك ألا تكون الأخير، معتبرًا أن أفضل ترتيب هو أن تأتي ثانيًا، وذلك بالمراقبة وبالتعلم مما تعرضت له أو رأيته في الأسواق سابقًا، والتحرك سريعًا "مع الحيتان" (يقصد كبار المستثمرين).
وبمفهوم "نظرية الألعاب" فإنه إذا تعرض أحد المتهمين للخيانة من جانب شريكه، فإنه في المرة المقبلة سيخونه أيضًا لينال 5 سنوات بالسجن بدلًا من 10 سنوات، بينما لو لم يخن الشريك فعليه التزام الصمت فذلك يضاعف مكاسب الجميع، فنظرية الألعاب تقود لتراكم الخبرات في السوق لتجنب "الخيانة".
المصادر: أرقام- ريسيرش جيت- ***** بلاس- بلومبرغ- كتاب " Theory of Games and Economic Behavior"- دراسة " Modeling the Stock Market Through Game Theory"- إنفسيتبيديا
مواقع النشر (المفضلة)