إن النمو السكاني السريع في السعودية بتخطي تعداد السكان عتبة ال 35 مليون نسمة في عام 2020م، وما أفرزه هذا التزايد من وجود مئات آلاف من الخريجين سنوياً يرغبون فرصاً للعمل لبدء حياتهم وتحقيق أحلامهم، أصبح تحدياً كبيراً يواجه الحكومة السعودية ينبغي أن تتضافر كل الجهود للتعامل معه، فنحن أمام مرحلة تحدٍ لواقعنا، خاصة مع ظروف جائحة كوفيد -19، والأزمات المالية التي تضرب الاقتصاد العالمي بين الحين والأخر والتي تؤثر بالطبع على الاقتصاد السعودي، كذلك تشبع القطاع العام بالوظائف. بالنظر إلى أحدث الإحصائيات الصادرة من الهيئة العامة للإحصاء حول سوق العمل السعودي، حيث بلغ معدل البطالة للذكور السعوديين 7.2% في الربع الأول من عام2021م، فيما بلغ معدل البطالة للسعوديات 21.2% كما وصل معدل البطالة لإجمالي السعوديين) الذكور والإناث (إلى 11.7% ليشكل انخفاضاً عن المعدل الذي كان عليه في الربع الأخير من عام 2020 م حيث كان 12.6%، ليبلغ مستوى أقل مما كان عليه قبل جائحة كوفيد-19، وبالرغم من التحسن في معدلات البطالة إلا أنها مازالت مرتفعة في بلد هو الأغنى ولله الحمد في المنطقة ويستقبل سوق العمل به آلاف العمال سنوياً.إن البطالة في السعودية بطالة هيكلية نتجت عن بنية التركيبة الاقتصادية القائمة، وعدم التوافق بين العرض والطلب على القوى العاملة حيث أن الوظائف والمهن المتوفرة في سوق العمل السعودي لا تتناسب بالضرورة مع ما يرغبه الباحثون عن العمل وما يملكونه من مهارات للقيام به، واستمرار معدلات البطالة مرتفعة على مدار العقدين الأخيرين مقارنة بالإمكانيات الجبارة التي تمتلكها السعودية وحجم الإنفاق الحكومي الكبير على كل القطاعات، بالإضافة إلى الجهود الكبيرة المبذولة من قبل الحكومة والتي لا تخفى على أحد لإصلاح سوق العمل، يستدعي منا الوقوف بالبحث والتدقيق في هيكل سوق العمل السعودي وكيف أنه هو بذاته وهيكله الحالي المولد الأول للبطالة من وجهة نظري، من خلال عدة نقاط: أولاً: التعليم؛ وليس خفياً على أحد أن المخرجات من العملية التعليمية في السعودية ليست على المستوى المطلوب خاصة مع الإنفاق السنوي الضخم الذي تقدمه الحكومة من الموازنة العامة على التعليم، والذي بلغ 143 مليار ريال سعودي في عام 2020م ممثلاً 17% من حجم الإنفاق الحكومي، في حين يبلغ متوسط الإنفاق على التعليم عالمياً 10% من الإنفاق الحكومي من الموازنة، ومن المتوقع أن تشهد السنوات القادمة -بإذن الله-مزيداً من الإنفاق على التعليم طبقاً لـ " رؤية المملكة 2030”. ونشير هنا إلى أن سوق العمل السعودي كان يعتمد على العمالة الغير سعودية منخفضة التكلفة منذ عقود في تلبية احتياجات الأنشطة الاقتصادية المختلفة، وتعويض نقص المهارات والقدرات الإنتاجية في العمالة السعودية. إلا أن الظروف الاقتصادية تغيرت وبنية النشاط الاقتصادي اختلفت، فاختفت وظائف وظهرت وظائف جديدة، وبالتالي حان الوقت لصقل مهارات الخريجين وتأهيلهم للمنافسة الشرسة في سوق العمل. وهو ما يتطلب ضرورة وجود تغيراً جذريا في استراتيجيات التعليم وخاصة التعليم المهني والتقني، والتركيز على الاختصاصات العلمية والهندسية والفنية التي يتطلبها سوق العمل في الوقت الحالي، خاصة إذا ما وجدنا الآن أن غالبية العاطلين عن العمل هم من الفئات المتعلمة، وخاصة الحاصلين منهم على مؤهلات أدبية واجتماعية، فهذا الأمر يعد سبباً مباشراً في شكل هيكل سوق العمل السعودي، لذا أصبح من الضروري تطوير نظام التعليم لتتوائم مخرجاته مع متطلبات سوق العمل من خلال تسويق الجامعات لطلابها حسب احتياجات سوق العمل المستقبلية. ثانياً: الثقافة المجتمعية السائدة في المجتمع الخليجي عموماً والسعودي خصوصاً، والتي تهون من شأن المهن الفنية والحرفية، وتفضيل بعض الشباب السعودي الركون إلى التعطل، وانتظار الوظيفة على القيام بهذه الأعمال؛ الأمر الذى دفع القطاع الخاص عبر عقود إلى جلب العمالة الوافدة منخفضة المهارة للقيام بتلك الأعمال مما زاد من نسب البطالة بين الشباب السعودي، صحيح ان تلك الثقافة قد شهدت قدر كبير من التغيير في الفترة الماضية، وتوجه العديد من الشباب إلى الأعمال الحرفية واليدوية، إلا أننا بحاجة إلى مزيد من بذل الجهد لتغيير تلك الثقافة كلياً، وهنا يبرز أهمية دور الاسرة للاستفادة من الدخول العالية التي تدرها تلك المهن على المستثمرين والعاملين بها. ثالثاً: هيكل الاقتصاد السعودي القائم على النفط من أهم مسببات البطالة، فقطاع النفط كان له دور كبير في النمو الاقتصادي الكبير الذي حققته السعودية على مدار عقود سابقة، ومازال هو المصدر الأول للإيرادات الحكومية، فقد بلغت الإيرادات من النفط في الربع الأول لهذا العام 117 مليار ريال، فيما بلغت الإيرادات غير النفطية 88 مليار ريال لنفس الربع، وبذلك تكون الإيرادات النفطية للسعودية قد شكلت 57% من إجمالي إيرادات الربع الأول من عام 2021م، إلا أن هذا القطاع يتميز باستيعاب أعداد قليلة من العاملين ولا يمكنه هو والقطاعات المرتبطة به بصورة مباشرة كصناعة البتروكيماويات على سبيل المثال، استيعاب أعداد كبيرة من طلاب التوظيف. فهذا القطاع تشبع بالوظائف منذ عقود. وبالتالي فإن التوجه إلى تعزيز القطاع الخاص هو حل لا مفر منه، لأنه القطاع الذي يمكن أن ينعكس مستوى نموه على إيجاد المزيد من فرص العمل، ومن الأرقام الجيدة التي تعكس نمو هذا القطاع ما أعلنته الهيئة العامة للإحصاء حول بيانات الربع الأول 2021م لسوق العمل فنجد استحواذ القطاع العام على 26.2 % من إجمالي المشتغلين بنهاية الربع الأول 2021م، بينما بلغت نسبة المشتغلين في القطاع الخاص 52.3 %. وتوزع السعوديون على 53.8 % في القطاع العام و44 % في القطاع الخاص، بينما توزع غير السعوديين على 58.9 % في القطاع الخاص و36.9 % في قطاعات أخرى. رابعاً: أن الأنظمة القديمة التي كانت تنظم سوق العمل جعلت السعودية من أقل الدول مرونة في إجراءات العلاقة التعاقدية، مقارنة بأسواق العمل الإقليمية أو الدولية. ومن أثار ذلك حتى عام 2020م ارتفعت القضايا المنظورة أمام المحاكم العمالية سنويًا إلى 167 %، فيما تراوحت ظاهرة العمالة السائبة ما بين 3,5 إلى 4,4 مليون عامل، ولهذا كان لزاماً إقرار عدد من الإجراءات التنظيمية والتشريعية والقانونية التي تحكم بيئة الأعمال، وتلك التي تحكم علاقة العاملين بالمنشآت بما يحفظ حقوق الطرفين على حد سواء، كبرنامج حماية الأجور للعاملين في القطاع الخاص السعودي، وتحديد الحد الأدنى للأجور، ومبادرة تحسين العلاقة التعاقدية، فتلك الإجراءات بالإضافة إلى تغييرها الصورة الذهنية حول سوق العمل السعودي، تجعل العامل أو الموظف السعودي الخيار المفضل للتوظيف لدى القطاع الخاص فالسماح بحرية انتقال العمالة الوافدة على سبيل المثال يؤدى إلى ارتفاع تكلفة العمالة الوافدة، مما يعزز من جاذبية العمالة المحلية ذات المهارات المنخفضة ويتم التركيز على صقل مواهبهم وتنمية قدراتهم الفنية والادارية تدريجياً من خلال التراكم المعرفي الذي سيكتسبونه من خلال الاحتكاك بسوق العمل، بالإضافة الى البرامج التدريبية الحكومية كبرنامج "تمهير" المخصص لحديثي التخرج السعوديين الحاصلين على درجة البكالوريوس أو الماجستير أو الدكتوراه، وخريجي المعاهد والكليات حملة الدبلومات الفنية والصحية والإدارية أو الذين لم يعملوا بأي وظيفة خلال الأشهر الستة الأخيرة. بهدف تدريبهم في المؤسسات الحكومية والشركات المتميزة في القطاع الخاص. بالإضافة الى برنامج "طاقات" الذي يهدف الى الربط الوظيفي بين الباحثين عن عمل وبين الجهات الموظفة من القطاع الخاص من خلال عدة قنوات مثل موقع التوظيف الإلكتروني ومراكز التأهيل والتوظيف. فكل تلك البرامج من شأنها اكتساب الخبرات والمهارات اللازمة لإعداد الشباب وتهيئتهم للمشاركة في سوق العمل. ونشير هنا الى برنامج "نطاقات" الذى تم تفعيله كمعيار جديد لتحفيز المنشآت على توطين الوظائف، من خلال تصنيف الكيانات التي يعمل بها عشرة عمال أو أكثر إلى أربع نطاقات (أحمر / أصفر / أخضر / بلاتيني) حسب نسبة توطينها للوظائف، بحيث تكون الكيانات الأقل توطيناً في النطاقين الأحمر والأصفر، بينما تصنّف الكيانات الأعلى توطيناً في النطاقين الأخضر والبلاتين، فتوطين المهن الذي لعب دوراً كبيراً في توظيف أعداداً كبيرة من المواطنين في مهن نوعية مثل طب الأسنان والصيدلة وتقنية المعلومات والمحاسبة وغيرها، كان له بعض الاثار الجانبية كالضغط على منشآت القطاع الخاص بشكل مبالغ فيه من خلال زيادة نسب التوطين، فالأمر يستوجب ضرورة التشاركية مع القطاع الخاص في اتخاذ تلك القرارات وتوقيتاتها لضمان نجاح هذه القرارات. خامساً: التستر التجاري والذي يعد من أهم مسببات البطالة واختلال هيكل سوق العمل السعودي، وبحسب وزارة التجارة، يعرف التستر التجاري بأنه تمكين غير السعودي من العمل لحسابه الخاص بواسطة المواطن السعودي أو المستثمر الأجنبي في نشاط محظور عليه، سـواءً كـان ذلك عن طـريق استعمال اسمه أو ترخيصه أو سجله التجـاري أو بأي طريقـة أخرى. ويتسبب التستر في انتشار ظواهر سلبية مثل فوات فرص وظيفية للمواطنين والغش التجاري، خاصة مع عدم توافر فواتير وحسابات حقيقية للمنشآت ما يعيق حصول المواطن على حقه إذا ظهرت له عيوب في البضائع والسلع أو سوء في الخدمات، ويصل عدد المنشآت في المملكة إلى 949.9 ألف منشأة، 47.7 % من هذه المنشآت تعمل في تجارة الجملة والتجزئة. ووفقاً للتقرير الربعي الصادر عن المؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية فقد بلغ عدد منشآت القطاع الخاص 629790 منشأة بنهاية العام 2020م، مقارنة بـ 554906 منشأة بنهاية العام 2019م بزيادة نسبتها 13.5% ما يعادل 74884 ألف منشأة. وتعتبر المنشآت الصغيرة المتضرر الأكبر من عمليات التستر، فعلى سبيل المثال شهدت قطاع المقاولات خلال عام زيادة يومية في عدد المنشآت بمعدل 26 منشأة يوميا وبإجمالي 175.471 منشأة في عام 2020م مقارنة ب 165 ألف منشأة في عام 2019م. وبمقارنة بسيطة بين السعودية والولايات المتحدة بالأمريكية استنادًا إلى بيانات من مكتب الإحصاء الأمريكي، هناك 6.1 مليون شركة صاحبة أعمال في الولايات المتحدة في عام 2018م، بينما يبلغ عدد السكان 300 مليون نسمة و60 مليون زائر، نجد أن الخلل واضح جداً فالسوق السعودي يشهد ارتفاعاً كبيراً في أعداد المنشآت بالمقارنة بحجم السوق وأعداد السكان، مما يعد مؤشراً هاماً على ظاهرة التستر. وقد أعلنت وزارة التجارة عن إحالتها 585 قضية تستر تجاري إلى النيابة العامة منذ بداية العام 2021 وحتى نهاية شهر أغسطس. واستهدفت رؤية المملكة 2030 مواجهة التستر من خلال البرنامج الوطني لمكافحة التستر برئاسة وزير التجارة رئيس اللجنة الإشرافية على البرنامج والتي يضم أكثر من 11 جهة حكومية حيث أطلق لائحة تصحيح أوضاع مخالفي نظام مكافحة التستر والتي منحت المنشآت 6 أشهر بداية من شهر فبراير الماضي وحتى أغسطس 2021م ثم تم تمديدها لمدة 6 أشهر إضافية تنتهي في 16 فبراير 2022م. إن الإجراءات الحالية التي تقوم بها الحكومة لمعالجة التشوهات والاختلالات في سوق العمل السعودي على مدار عقود سابقة، تستدعى معها الوقوف على مدى جدوى بعض القرارات ومراجعة أثرها على سوق العمل بالإيجاب أو السلب. كذلك إعادة هيكلة الاقتصاد، وتدعيم القطاع الخاص بدلا من تقويضه بإنشاء الشركات الشبة الحكومية التي تضعف من قدرة القطاع الخاص على المنافسة. فالقطاع الخاص سيكون هو قاطرة النمو لتوليد فرص العمل للمواطنين. بعد سنوات من الاعتماد على القطاع العام في توفير الرفاهة والوظائف.
مواقع النشر (المفضلة)