هنا الوسطاء يمتنعون! .. هل سنحتاج 30 عامًا قبل إدراك ثوريّة "البلوك شين"؟
تطالع الصحف، تفتح التلفاز، تتصفح الإنترنت، تسامر أصدقاءك، تجد الجميع يتحدث حول تكنولوجيا "البلوك شين" التي تقوم على أساسها البتكوين والعملات الافتراضية الأخرى، وحول مدى إمكانيتها على تغيير وجه العالم الذي نعرفه.
في عام 1993، نشرت مجلة "النيويوركر" الأمريكية رسما كاريكاتوريا ل يظهر جالسًا أمام شاشة كمبيوتر، مخاطبًا ًا آخر إلى جانبه قائلًا له "على شبكة الإنترنت لا أحد يعرف أنك ".
هذا الكاريكاتير كان يهدف إلى لفت الانتباه إلى واحدة من خصوصيات الشبكة العنكبوتية، وهي أنه لا توجد طريقة لتحديد هوية المستخدم إذا كان إنسانا أو روبوتا أو ا، فالجميع في النهاية ما هو إلا كود من بين الملايين من الأكواد.
وكان هذا مفيدًا من بعض النواحي، فهو يتناسب مع الروح التحررية للإنترنت ويشجع على حرية التعبير، ولكنه يخلق في نفس الوقت صعوبات عندما يتعلق الأمر بأشياء مثل الأمن الشخصي وحماية حقوق الملكية الفكرية. فصناعة الموسيقى على سبيل المثال اهتزت الأرض من تحت أقدامها بعد أن أصبح بإمكان أي شخص نسخ ملف "إم بي ثري" ونشره بضغطة زر واحدة.
البلوك شين.. ثوريتها تماثل ثورية الإنترنت
- اليوم، تأتي تكنولوجيا البلوك شين مع حل لهذه المشاكل، من خلال توفير أهم شيئين تفتقر إليهما شبكة الإنترنت حاليًا، وهما إمكانية التحقق من الهوية، وتكنولوجيا المعاملات. ولذلك يعتبرها الكثيرون الاختراع الحوسبي الأكثر أهمية على الإطلاق، وذلك لأنه لأول مرة في تاريخ البشرية، أصبح تحت تصرفنا وسيلة رقمية تمكننا من التبادل كند لند "peer-to-peer" دون الحاجة لوسطاء.
- فكر في "بلوك شين" كقاعدة بيانات لامركزية مفتوحة المصدر يمكن للجميع الاطلاع عليها والتحقق من المعلومات الواردة فيها، تعتمد على معادلات رياضية وأكواد مشفرة، تمكن اثنين أو أكثر من الأطراف من القيام بأي معاملة مالية أو تجارية بينهما دون الحاجة إلى طرف ثالث لبناء الثقة.
- فبدلًا من الاعتماد على بنك أو حكومة أو وسيط آخر لتوفير الثقة، تضمن لك تكنولوجيا "بلوك شين" ذلك، حيث إن قاعدة البيانات هذه، عبارة عن دفتر أستاذ محاسبي يسجل المعاملات المالية، ويخزنها في كتل يتم الاحتفاظ بها من قبل شبكة من ملايين من أجهزة الكمبيوتر المتصلة بشبكة الإنترنت، ويتم تحديثه تلقائيًا عن طريق خوارزمية حاسوبية، كما أن المعلومات المسجلة به غير قابلة للاختراق أو التعديل بأي حال، وهذا هو السبب في أن البعض يطلق على هذه التكنولوجيا "بروتوكول الثقة".
- يمكننا تسجيل أي شيء تقريبًا على قاعدة البيانات، وليس مجرد المعاملات المالية، فمثلًا يمكننا تسجيل من تزوج بمن ومن يمتلك أي أرض.
هل يعيد التاريخ نفسه؟
- لفهم نوعية التحول الذي قد تحدثه تكنولوجيا البلوك شين على عالمنا اليوم، ربما من المناسب الرجوع عدة عقود إلى الوراء، والتفكر في حالات التحول الذي أسهمت فيه مجموعة من التكنولويجيات الأساسية. واحدة من أشهر الأمثلة على ذلك، هي "بروتوكول التحكم بالنقل" (TCP/IP) والذي وضع الأساس لتطوير الإنترنت.
- طور "بروتوكول التحكم بالنقل" لأول مرة في عام 1972 من قبل هيئة البحوث التابعة لوزارة الدفاع الأمريكية التي كانت قلقة في ذلك الوقت بشأن إمكانية نشوب حرب نووية، وهو ما دفعها للبحث عن وسائل لربط منشآتها الحاسوبية ببعضها البعض، بطريقة تجعل قدرتها على الاتصال فيما بينها تصمد في مواجهة الحرب.
- لكن قبل ظهور (TCP/IP)، كانت الاتصالات الحاسوبية تعتمد على نظام (Circuit switching) تبديل الدارة أو تحويل دائرة الاتصال، وهي طريقة لإنشاء قناة اتصال عبر الشبكة، تقوم خلالها عقدتان بتأسيس دارة اتصال مُخصصة قبل البدء بتبادل البيانات. ولضمان إمكانية التواصل بين أي عقدتين استثمر مقدمو خدمات الاتصالات ومصنعو المعدات مليارات الدولارات في إنشاء خطوط مخصصة.
- ثم جاء (TCP/IP) وأطاح بهذا النموذج، لأنه لا يحتاج إلى وجود خطوط خاصة مكرسة لعملية الاتصال أو هياكل أساسية ضخمة، وساهم في خلق شبكة عامة تشاركية مفتوحة، دون أي سلطة مركزية أو طرف مسؤول عن صيانتها أو تحسينها.
- في البداية، نظرت قطاعات الاتصالات والحوسبة التقليدية إلى (TCP/IP) بشيء من الشك. فلم يكن بإمكان الكثير منهم مجرد تصور احتمال أن البيانات والرسائل وملفات الصوت والفيديو يمكن تحميلها وتبادلها على نظام آخر غير المعروف في ذلك الوقت بشكل واسع النطاق ويتمتع بدرجة عالية من الأمان.
- لكن في أواخر الثمانينيات والتسعينيات، استُخدم (TCP/IP) من قبل عدد متزايد من الشركات التكنولوجية مثل "صن" و"نيكست" و"سيليكون جرافيكس" في إنشاء شبكات داخلية خاصة. وللقيام بذلك، قاموا بتطوير الوسائل والأدوات التي وسعت نطاق استخدامه لاحقًا إلى ما هو أكثر من البريد الإلكتروني.
- بمجرد أن اكتسبت هذه التكنولوجيا كتلة حرجة، استفاد جيل جديد من الشركات من الاتصال منخفض التكلفة من خلال إنشاء خدمات على الإنترنت كانت بمثابة بدائل مقنعة للكثير من الشركات والأعمال التجارية القائمة.
- موقع "سي نت" كان أول من نقل صناعة الأخبار التي كان يسيطر عليها التلفزيون والراديو إلى الإنترنت، أما "أمازون" فعرضت للبيع على موقعها الإلكتروني أعدادا من الكتب تفوق ما تحوذه أي مكتبة. شركتا "برايس لاين" وإكسبيديا" جعلتا من السهل على المستهلكين شراء تذاكر الطيران، ونجحتا في إضفاء شفافية لامثيل لها على هذه العملية.
- في نهاية المطاف، استغرق الأمر أكثر من 30 عامًا، قبل أن يتمكن "بروتوكول التحكم بالنقل" (TCP/IP) من الانتقال عبر جميع المراحل، بداية من الاستخدام الفردي ومروراً بالاستخدام التجاري المحدود، قبل أن يتمكن في النهاية من إعادة تشكيل الاقتصاد العالمي.
- اليوم، أكثر من نصف الشركات المساهمة الأكثر قيمة في العالم لديها نماذج أعمال قائمة على الإنترنت.
سوق الأسهم .. التسوية في أقل من ثانية
- التشابهات بين "بلوك شين" و"(TCP/IP)" واضحة جدًا. فكما أن البريد الإلكتروني يسمح بالرسائل الثنائية، تمكننا البتكوين – التي تعتبر أول تطبيق لتكنولوجيا "بلوك شين" – من القيام بمعاملات مالية ثنائية.
- تطوير وصيانة "بلوك شين" مفتوح وموزع ومشترك، تمامًا مثل (TCP/IP)، حيث يقوم فريق من المتطوعين في جميع أنحاء العالم بصيانة البرامج الأساسية لهذه التكنولوجيا. وكما حدث مع البريد الإلكتروني في بداياته، لم يتحمس حتى الآن لتكنولوجيا "بلوك شين" سوى فئة صغيرة نسبيًا.
- ساهم (TCP/IP) في خلق قيمة اقتصادية جديدة عن طريق خفض تكلفة الاتصال بشكل كبير، وبالمثل، يمكن لـ"بلوك شين" أن تقلل بشكل كبير تكلفة المعاملات، حيث إنها لديها القدرة على أن تصبح نظاما لتسجيل جميع المعاملات. وإذا حدث ذلك، سيشهد الاقتصاد العالمي تحولا جذريا جديدا.
- على سبيل المثال، يمكن لأي متعامل بسوق الأسهم اليوم، تنفيذ أي معاملة شراء أو بيع في جزء من الثانية، وغالبًا دون تدخل بشري، ورغم ذلك فإن عملية التسوية – نقل ملكية الأسهم – يمكنها أن تستغرق عدة أيام، وذلك لأن طرفي المعاملة لا يستطيعان الوصول إلى سجلات بعضهما البعض، وبالتالي لا يمكنهما التحقق تلقائيًا مما إذا كان الأصل أو الثمن مملوكين للطرفين ويمكن نقلهما.
- من هنا، تظهر الحاجة للوسطاء، والذين يعملون كضامنين للطرفين إلى أن تتم تسوية المعاملة بعد اجتيازها لمجموعة من الإجراءات التنظيمية، لينعكس أثرها في النهاية على دفتر الأستاذ الخاص بالطرفين.
- لكن في نظام "بلوك شين" يتم نسخ دفتر الأستاذ في عدد كبير من قواعد البيانات المتطابقة، التي يتم استضافتها وصيانتها من قبل أطراف كثيرة. وعندما يتم إدخال تغيير في نسخة، يتم تحديث جميع النسخ الأخرى في نفس الوقت.
- ليست هناك حاجة إلى وسطاء أو جهات خارجية للتحقق من الملكية أو نقلها. فإذا تمت معاملة أسهم على نظام قائم على البلوك شين، فسوف يتم تسويتها في غضون ثوان بشكل آمن، يمكن التحقق منه. (الاختراقات التي تعرضت لها تبادلات بتكوين، كشفت عن نقاط ضعف، ليس في بلوك شين وإنما في أنظمة منفصلة مرتبطة بالأطراف المستخدمة لهذه التكنولوجيا).
العقود الذكية .. أنباء غير سارة للكثيرين
- واحدة من أكثر تطبيقات البلوك شين ثورية هي "العقود الذكية"، والتي يتم من خلالها أتمتة المدفوعات وتحويل العملات والأصول الأخرى في حال تحققت شروط تعاقدية معينة. على سبيل المثال، العقد الذكي قد يرسل دفعة إلى المورد بمجرد استلام الشحنة، ويمكن لشركة ما أن ترسل إشارة عن طريق البلوك شين أن سلعة معينة تم استلامها، وقد يتم ربط الشحنة بنظام "جي بي إس" وبمجرد أن تصل إلى مكان متفق عليه يتم الدفع تلقائيًا.
- المهام التي يمكن للعقود الذكية إنجازها لا حصر لها، ولكن هناك سؤالا يطرح نفسه: إذا كانت العقود مؤتمتة، فما الذي سيحدث لهياكل وعمليات الشركات التقليدية والوسطاء مثل المحامين والمحاسبين؟ وماذا عن المديرين أنفسهم؟ بالتأكيد عدد غير قليل منهم قد يفقد وظائفه، أما البقية فسوف تتغير أدوارهم وطبيعة عملهم بشكل جذري.
- ربما أبلغ وصف لوضع تكنولوجيا البلوك شين حاليًا، هو أنها مثل سيارة من سيارات سباق "الفورملا وان" محاصرة في زحام المرور، وهي على أتم الاستعداد للانطلاق بأقصى سرعة بمجرد انسياب حركة المرور، وانفتاح الطريق أمامها.
- أخيرًا، بغض النظر عن السياق أو الكيفية، هناك احتمال قوي أن تؤثر تكنولوجيا البلوك شين على عملك أيًا كانت طبيعته، والسؤال الوحيد الذي يجب أن تشغلك إجابته هو: متى؟
مواقع النشر (المفضلة)