في أبريل من عام 2000، طرحت شركة صناعة الدونات الأمريكية "كريسبي كريم" للاكتتاب العام الأولي وكان سعر الطرح 21 دولارًا للسهم، وفي يوم التداول الأول ارتفع السهم بنسبة 76% قبل أن يغلق عند 37 دولارًا، مما رفع مكرر الربحية الخاص به إلى 78 مرة، وهو ما عادل في ذلك الوقت أكثر من 3 أضعاف متوسط مكرر الربحية الخاص بشركات الأغذية الأمريكية المدرجة في مؤشر "ستاندرد آند بورز".
وعلى الرغم من جودة منتج الشركة التي حظت بشعبية كبيرة إلا أن بعض المحللين رأوا أن الشركة مبالغ في تقييمها مع ارتفاع سعر سهمها إلى هذا المستوى، ورغم هذا أقبل المستثمرون بشكل أكبر على السهم بعد أن حققت "كريسبي كريم" مبيعات كبيرة؛ ففي السنة المالية 2000 والمنتهية في الثلاثين من يناير، قفزت مبيعات متاجر الشركة بنسبة 14% على أساس سنوي.
في الوقت نفسه، ارتفع عدد متاجر الشركة منذ نهاية عام 1998 بنسبة 20%، ليصل إلى 144 متجرًا، بينما ارتفع عدد تلك الفروع المدارة وفق عقود امتياز إلى 86 متجرًا، وكلما قررت الشركة افتتاح متجر جديد اصطف العملاء المتحمسون بأعداد كبيرة أمام المتجر لإشباع رغبتهم بالحصول على عدد من الدونات فور فتح الأبواب لأول مرة.
السقوط في بئر التلاعب
مدفوعًا بهوس المستهلكين بالكعكة الدائرية، استمر سهم "كريسبي كريم" في الارتفاع ليصل إلى 108.5 دولار في نوفمبر من عام 2000، ولكن في النهاية لم يكن من الممكن أن يستمر هوس المستهلكين للأبد، وفي عام 2003 تباطأت وتيرة افتتاح المتاجر الجديدة، مما أثار تساؤلات حول عدالة تقييم سهم الشركة كواحد من أسهم النمو.
في هذه المرحلة، قررت إدارة "كريسبي كريم" مراجعة خطط تعويض كبار المسؤولين التنفيذيين، من الآن فصاعدًا لن يحصل المدراء التنفيذيون في الشركة على أي مكافآت ما لم تعلن الشركة في كل ربع مالي عن أرباح تتجاوز توقعات المحللين في السوق لربحية السهم بواقع سنت على الأقل لكل سهم.
من هنا انطلقت الإدارة التنفيذية للتلاعب بمصروفاتها المستحقة والتسجيل غير الصحيح لبعض الإيرادات المشكوك في تحصيلها من أجل جعل ربحية السهم تصل للنطاق المحدد، وبهذه الطريقة استمرت "كريسبي كريم" في تجاوز توقعات المحللين 13 ربعًا متتاليًا، ليس أكثر من ذلك.
بداية نهاية هذا المخطط المشبوه كانت في السابع من مايو 2004 عندما أصدرت الشركة أول تحذير بشأن أرباحها المتوقعة؛ حيث أخبرت المستثمرين بأن أرباحها ستنخفض بنسبة 10% مقارنة مع توقعاتها في السابق. وعزت الشركة هذا التراجع إلى تعثر أعمالها الجديدة في مجال الوجبات الغذائية منخفضة الكربوهيدرات، غير أن بعض المحللين اشتبهوا في أن أساس المشكلة هو التوسع المفرط.
في نفس اليوم تراجع سهم الشركة بنسبة 29% فاقدًا أكثر من ربع قيمته السوقية، وفي وقت لاحق من نفس الشهر نشرت صحيفة "وول ستريت جورنال" تقريرًا فصّلت فيه الجوانب المشكوك فيها من البيانات المالية الخاصة بالشركة، وذلك استنادًا إلى معلومات قدمها إليها شخص مطلع على تقارير وبيانات الشركة المالية.
بعدها بما يقرب من 5 أشهر، رفضت شركة المراجعة الخارجية المسؤولة عن التدقيق في البيانات المالية الخاصة بـ"كريسبي كريم"، "برايس ووترهاوس كوبرز" استكمال مراجعة البيانات المالية الخاصة بالشركة حتى تنتهي شركة محاماة خارجية عينها مجلس الإدارة من بعض الإجراءات التي طلبتها شركة المراجعة. وفي الثامن من أكتوبر 2004 فتحت لجنة الأوراق المالية والبورصات تحقيقًا رسميًا في ممارسات الشركة.
الأسوأ لم يأت بعد
على إثر هذه التطورات المتسارعة، انخفض سهم الشركة بنسبة 16% إلى 9.64 دولار أمريكي متراجعًا من ذروته في أغسطس 2003 حين بلغ 49.79 دولار، وهو التدهور الذي تزامن مع إعلان الشركة عن أول خسارة لها على الإطلاق كشركة عامة، وتراجع مبيعاتها بأكثر من 6%، وتكبدها لنحو 3 ملايين دولار كمصروفات قضائية في إطار التحقيق المفتوح معها من جانب لجنة الأوراق المالية والبورصات.
في 16 ديسمبر 2005 أقرّت "كريسبي كريم" بأن عملية إعادة شرائها لأحد فروعها المدارة بعقد امتياز كان يجب إدراجها في البيانات المالية على أنها مصروفات تعويض وليس ضمن أصول الشركة، كما أقرت الإدارة أيضًا بارتكابها مخالفات أخرى في عملية إعادة شراء امتيازها في كاليفورنيا.
على إثر هذه الأخبار ارتفع سهم الشركة بنسبة 8.7%؛ حيث رأى المحللون أن ما أقرّت به الشركة كان أقل سوءًا وفداحة من المتوقع، ورغم ذلك، تمسكت "برايس ووترهاوس كوبرز" بموقفها الرافض لاستكمال مراجعة تدقيق بيانات خاصة بربعين سابقين، في انتظار التحقيق الجاري في ذلك الوقت من قبل شركة المحاماة الخارجية وتقرير اللجنة الخاصة المعينة من قبل مجلس إدارة الشركة.
سرعان ما اتضح أن الأسوأ لم يأت بعد بالنسبة لـ"كريسبي كريم"، ففي الرابع من يناير 2005، أعلنت الشركة أن أرباحها المعلنة عن العام السابق سيتم تعديلها بالخفض، كما أنها ستتخلف عن سداد ائتمانها المصرفي البالغ 150 مليون دولار؛ بسبب إخفاقها في تقديم بيانتها المالية المعلقة من قبل شركة المراجعة، وتدهور مبيعاتها.
في فبراير قالت الشركة إنها في حاجة إلى ائتمان مصرفي إضافي بحلول نهاية مارس لكي تتمكن من الإبقاء على عملياتها، ولكن بحلول ذلك الوقت كان المساهمون قد رفعوا 12 دعوى قضائية ضد المديرين التنفيذيين للشركة، والذين اتهموهم بمحاولة تلبية توقعات المحللين لربحية السهم من خلال التلاعب بإيرادات الشركة. واستجابة لهذا الوضع المتدهور قررت "كريسبي كريم" استبدال رئيسها التنفيذي "سكوت ليفينجود".
نهاية كل شيء
بعد 10 أشهر من بداية عملها، انتهت لجنة التحقيق المعينة من قبل مجلس إدارة "كريسبي كريم" إلى أنه على الرغم من أن جميع الموظفين وأصحاب الامتياز الذين تمت مقابلتهم في إطار التحقيق نفوا تعمد التلاعب بأرباح الشركة أو أن هناك مَن طلب منهم فعل ذلك، إلا أن عدد وتوقيت الأخطاء المحاسبية يشير إلى أنها نتجت عن نية لجعل أرباح الشركة وكأنها تبدو في صورة أفضل مما هي عليه في الواقع، مما مكّن الإدارة التنفيذية من جعل ربحية السهم أعلى من توقعات المحللين لفترة طويلة.
جاءت خاتمة هذه القضية في عام 2009، حيث توصلت لجنة الأوراق المالية والبورصات لتسوية مع الرئيس التنفيذي السابق للشركة "سكوت ليفينجود" واثنين من المديرين الماليين السابقين لتسوية لم يقروا خلالها أو ينفوا الاتهامات الموجهة إليهم، ولكنهم وافقوا على رد المبالغ التي قالت اللجنة إنهم كسبوها بطريقة غير مشروعة، كما فرضت عليهم غرامات مدنية.
في النهاية ربما لم يكن بوسع المستثمر العادي أو المحلل اكتشاف الإجراءات المتلاعبة التي اتبعتها "كريسبي كريم" في التبليغ عن بياناتها المالية، ولكن يظل السجل الطويل بالشكل الاستثنائي للأرباح المتجاوزة لتوقعات المحللين في كل ربع سببًا كافيًا للشك في احتمال تورط الشركة في إدارة أرباحها لجعلها تبدو في صورة أفضل مما هي عليه في الواقع.
المصادر: أرقام – لجنة الأوراق المالية والبورصات – وول ستريت جورنالكتاب: Financial Statement Fraud: Strategies for Detection and Investigation
مواقع النشر (المفضلة)