توصيات البيع والشراء .. كيف يخدع محللو سوق الأسهم أنفسهم ومن ورائهم المستثمرون؟
في بداية القرن العشرين نشر عالم الفيزياء الشهير "ألبرت إينشتاين" نظريتين تتحديان بشكل كبير الفهم السائد لدى العلماء حول طبيعة الكون، فقد أشارت نظريتاه الثوريتان النسبية الخاصة والنسبية العامة إلى أن الزمان والمكان وجهان لعملة واحدة وأنهما في الحقيقة جزء من شيء واحد يدعى "الزمكان".
وفي إطار النسبية الخاصة قدم "أينشتاين" معادلة تكافؤ الكتلة والطاقة الشهيرة (E=mc²) أو (الطاقة = الكتلة ضرب مربع سرعة الضوء) والتي تفسر كيفية تحول المادة إلى طاقة والعكس، وعند إعادة ترتيب تلك المعادلة يتضح أن المادة في حقيقتها عبارة عن طاقة مركزة وهو مفهوم علمي جديد تمامًا في ذلك الوقت.
وفي معرض جداله مع غيره من العلماء حول مدى صحة أطروحاته الثورية قال "أينشتاين" جملته الغامضة الشهيرة: "الواقع مجرد وهم"، وقد احتار العلماء في تأويل ما قصده "أينشتاين" بهذه العبارة، ولكن معظمهم يتفق على أنه كان يقصد أن ما نعتقد أنه هو الواقع هو في الحقيقة ليس سوى انعكاس لظروفنا وتصوراتنا المسبقة كمدركين للواقع.
"وهم الموضوعية"
توضح لنا عبارة "أينشتاين" أننا كبشر ننظر دائمًا إلى آرائنا وتصوراتنا عن الواقع ليس باعتبارها مجرد وجهة نظر شخصية بل نذهب إلى أبعد من ذلك ونعتقد أنها هي التصورات الأدق والأكثر موضوعية وأن غيرها إما خاطئًا أو متحيزًا لأن ما نعتقده هو (الواقع).
هذه الظاهرة ربما لا يوضحها أكثر من سؤال ذكي جدًا سأله الممثل الكوميدي الأمريكي "جورج كارلين" لجمهوره الحاضر في إحدى الحفلات: "هل مرت عليك من قبل لحظة نظرت فيها إلى الشخص الذي يقود سيارته أمامك ببطء على أنه شخص غبي، بينما رأيت أن الشخص الذي يقود بسرعة أكبر منك شخص متهور؟"
سؤال "كارلين" يلمح إلى تصوراتنا للواقع غالبًا ما تتركز حول ذواتنا، فببساطة نحن نؤمن بأن تصوراتنا عما يجب أن يكون عليه الواقع هي الأصح، ومن هذا المنطلق نحكم على تصورات غيرنا.
يتصرف الناس غالبًا بهذه الطريقة بسبب وقوعهم تحت تأثير ما يسمى بـ"وهم الموضوعية"، فهم ببساطة يؤمنون بأن آراءهم وتصوراتهم عن الأشياء هي تعبير موضوعي غير متحيز عن حقيقة تلك الأشياء، وعلى هذا الأساس ينظرون إلى الذين يرون نفس الأشياء بشكل مختلف باعتبارهم مخطئين أو غير موضوعيين، ولكن هؤلاء لا يدركون أنهم منحازون لتصوراتهم عن الحقيقة وليس للحقيقة ذاتها.
هذه الظاهرة يمكن ملاحظتها بسهولة في النقاشات السياسية بين الناس، باختصار، غالبًا ما يرى كل شخص أن مواقفه وميوله السياسية هي الأصوب لأنه يؤمن بأنها ترتكز على ما يعتبرها حقائق موضوعية، وبالتالي ينظر إلى الأشخاص الذين لا يشاركونه نفس وجهة النظر على أنهم أقل واقعية أو مفتقدون للموضوعية.
محللو سوق الأسهم .. تحيز قد يكلف المستثمرين كثيرًا
في سوق الأسهم، ينتظر المستثمرون من المحللين التابعين لشركات البحوث وبيوت الخبرة أن يأخذوا في اعتبارهم جميع المعلومات المتاحة حول أي سهم ويقيموها بطريقة موضوعية وغير متحيزة قبل أن يقوموا بإصدار حكم دقيق غير متأثر بأي دوافع مسبقة للتوصل لاستنتاج معين.
لكن هل هذا هو ما يحدث في الواقع؟ تشير الدراسات إلى أن مشاعر كثير من المحللين وتصوراتهم المسبقة عادة ما تقودهم نحو استنتاج معين وهو ما يؤثر سلبًا على دقة حكمهم وبالتالي يخرجون بدون قصد بتوصيات خاطئة وتوقعات غير دقيقة.
ما يحدث ببساطة هو أن المحلل عادة ما يكون لديه تصور مسبق عن السهم، ولكن المشكلة ليست هنا بل في ميل المحلل إلى أن يأخذ في اعتباره فقط المعلومات التي تدعم هذا التصور، بينما لا يعطي وزنًا للمعلومات المناقضة أو يتجاهلها.
للأسف لا يعتمد كثير من المحللين إلا على الاستراتيجيات التحليلية التي تقودهم إلى النتيجة المرجوة، وقد أطلقت أستاذة علم النفس الاجتماعي "زيفا كوندا" على هذه الظاهرة اسم "المنطق الموجه"، وأوضحت أن الناس بشكل عام يميلون لبناء مبررات عقلانية والبحث عن المعلومات التي تدعم الاستنتاجات التي يرغبون في استخلاصها.
وإذا نجح المحلل في العثور على المعلومات التي تدعم تصوراته الشخصية المسبقة حول السهم فإنه يستخدمها في الخلوص إلى النتيجة المرجوة وهو يعتقد في قرارة نفسه أنه التزم الموضوعية، ولكن الموضوعية هنا مجرد وهم لأنه لا يدرك أن استنتاجاته ما هي إلا نتاج تحيز مسبق لديه دفعه لإنتقاء معلومات وتجاهل أخرى.
ما لا يدركه المحلل هو أنه قام من البداية ببناء تحليله الخاص بشكل يجعل النتيجة المرجوة أكثر احتمالًا.
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: ما هو مصدر التصورات المسبقة للمحلل، أو كيف أصبح المحلل منحازًا لتصور معين؟ هناك مهمتان رئيسيتان يقوم بهما المحللون التابعون لشركات البحوث وبيوت الخبرة؛ الأولى هي توقعات الأرباح؛ أما الثانية فهي التوصيات والتي إما أن تكون بيعًا أو شراءً أو احتفاظًا بالسهم.
أين الخلل بالضبط؟
كيف يحدث إذًا الخلل الذي يضر بأموال المستثمرين في النهاية؟ في البداية يأتي المحلل ويصدر توقعاته حول الأرباح المستقبلية للشركة والتي قد تكون أفضل من سابقتها أي توقعات متفائلة، أو أسوأ وبالتالي فهي توقعات متشائمة.
تبدأ المشكلة حين يقوم المحلل بمهمته الثانية وهي إعداد تقرير توصيات البيع والشراء، وهي العملية التي يتأثر خلالها (إذا لم يكن منتبهًا) بتوقعاته حول الأرباح المستقبلية للسهم، وهو ما يجعله يبحث عن معلومات تصل به إلى توصية تتماشى مع تلك التوقعات، فإذا كانت توقعاته للأرباح الفصلية للسهم إيجابية فسيميل للبحث عن معلومات تؤدي به إلى التوصية بشراء السهم، والعكس صحيح.
قد يقول أحدكم، أليس من المنطقي أن يوصي المحلل بشراء الأسهم التي يتوقع تحسن أرباحها المستقبلية؟ قطعًا لا، لأنه لا يوجد ببساطة ارتباط شرطي ثابت بين الاثنين؛ فالتوصية بالبيع والشراء يجب أن تكون بناءً على تقييم عوامل كثيرة أهمها جودة الأساسيات، وقد تكون التوقعات المستقبلية لأرباح الشركة أحد هذه العوامل غير أنها ليست أهمها على الإطلاق، فسهم الشركة التي يتوقع تحسن أرباحها ليس بالضرورة سهم جيد ينبغي عليك شراؤه.
وبالمناسبة، يعمل هذا التحيز في الاتجاه المعاكس أيضًا، بمعنى أنه أثناء إعداد توقعات الأرباح الفصلية يميل المحللون إلى معالجة المعلومات بطريقة توصلهم إلى استنتاج بدعم توصياتهم السابقة.
في دراسة نشرت في مارس 2002 تحت عنوان "العلاقة بين توصيات التداول وتوقعات المحللين للأرباح" قام كل من "مايكل إيمس" و"ستيفن جلوفر" و"جان كيندي" بتحليل التوصيات وتوقعات الأرباح الخاصة بآلاف المحللين في السوق الأمريكي خلال الفترة ما بين عامي 1988 و1996 من واقع البيانات الموجودة في قاعدة البيانات الخاصة بشركة "زاكس إنفيسمنت ريسرش".
وخلصت الدراسة إلى أن توقعات المحللين تجاه الأسهم التي أوصوا بشرائها كانت في أغلب الأحيان متفائلة، بينما سيطر عليهم التشاؤم تجاه أرباح الأسهم التي أصدروا توصية ببيعها، وأشار الباحثون إلى أن هذا التحيز بشكل عام مصدره تأثر المحللين بـ"وهم الموضوعية" الذي جعلهم يميلون إلى معالجة المعلومات المتاحة بطريقة تجعل توقعات الأرباح تتفق مع توصياتهم التي أصدروها بالفعل.
وأخيرًا، سواء كان هذا التحيز مقصودًا أو غير مقصود تبقى النتيجة في النهاية واحدة بالنسبة للمستثمرين، وهي خروج المحللين عليهم بتوصيات وتوقعات أرباح غير دقيقة لأنها مبنية على تحليل مصمم من الأساس للتوصل إلى نتيجة معينة، والمعلومات التي استخدمها المحللون للتوصل إلى ذلك الاستنتاج لا تضفي أي موضوعية على عملية التحليل لأنها معلومات منتقاة بالأساس، وبالتالي فالموضوعية هنا مجرد وهم لا أكثر.
مواقع النشر (المفضلة)