هناك نظريات معروفة في عالم المال والتمويل تستخدم في تحديد أسعار الأوراق المالية بشتى أنواعها، وهي طرق إحصائية ومالية ورياضية تعمل على تحديد قيمة الأصول حسب دراسة عديد من البيانات والأرقام المتعلقة بتلك الأصول، مثل حساب صافي القيمة الحاضرة للتدفقات النقدية المتوقعة من الأصل، وغيرها. وهناك بالطبع أساليب التحليل الفني التي تعتمد على دراسة الأسعار الحالية والسابقة وكميات التداول وأحجامها وتستخرج مؤشرات فنية من هذه البيانات لمحاولة معرفة وجهة الورقة المالية المستقبلية.ورغم وجود هذه الأدوات وكثرة استخدامها إلا أن المتابع يقف في بعض الأحيان حائرا أمام تحركات الأسهم، صعودا أو هبوطا، بشكل لا يمكن تبريره فقط بناء على ما تتنبأ به هذه النماذج المالية والفنية. من تلك المواقف ما نشاهده حاليا في الأسواق الأمريكية التي تبدو متماسكة إلى حد كبير رغم حالة عدم الوضوح تجاه مستقبل الاقتصاد الأمريكي والعالمي على حد السواء.إلى ماذا يمكن أن نعزو تماسك الأسهم الأمريكية؟من المهم أن ندرك أن أسعار الأسهم في أي مكان في العالم يجب أن تكون مرتبطة بالنتائج المالية للشركات، من مبيعات وصافي أرباح وتوزيعات نقدية، والسبب أنه في نهاية المطاف لا بد أن تكون هناك أرباح للشركة ولا بد أن يكون هناك نمو حقيقي في إيراداتها، وإلا لن يستثمر أحد بها. إذن علينا طرح السؤال التالي: هل نتائج أعمال الشركات الأمريكية تبرر هذا الصعود الكبير في أسعار الأسهم؟عند النظر إلى حركة الأسهم في الأعوام الخمسة الماضية نجد أن مؤشر داو جونز الصناعي ارتفع بنسبة 80 في المائة، ومؤشر s&p500 ارتفع بنسبة 115 في المائة، ومؤشر الشركات التقنية “ناسداك” ارتفع بنسبة 200 في المائة، وهذه جميعا مقارنة بأسعارها في نهاية 2016.وعند النظر إلى نمو مبيعات الشركات الأمريكية، ممثلة في شركات s&p500، نجد أن نسبة النمو في هذه الخمسة أعوام تبلغ فقط 26 في المائة، بينما المؤشر مرتفع بنسبة 115 في المائة، علما أن المتوسط الحسابي السنوي، وليس التراكمي السنوي لنمو المبيعات خلال الفترة نفسها يبلغ نحو 4.9 في المائة، وعلى مدى 20 عاما يبلغ نحو 3.4 في المائة سنويا. بالطبع ليس متوقعا أن تنمو أسعار الأسهم بشكل مطابق لنسبة نمو المبيعات، لكن على المدى الطويل لا بد أن تكون هناك علاقة مباشرة بين الاثنين، بمعنى أن نسبة ارتفاع أسعار الأسهم السنوية بالمتوسط من المفترض ألا تقل عن 3.4 في المائة.ماذا عن نمو صافي الأرباح للشركات الأمريكية في الخمسة الأعوام الماضية وحتى منتصف هذا العام؟ هل يمكن أن نبرر الارتفاعات المتواصلة للأسهم الأمريكية بأنها نتيجة طبيعية لنمو أرباح الشركات؟نمت أرباح الشركات الأمريكية خلال الخمسة الأعوام الماضية، حتى منتصف هذا العام، بنسبة 60 في المائة مقارنة بمستوياتها بنهاية 2016، حيث نجد أن المتوسط الحسابي السنوي، وليس التراكمي السنوي، لنمو صافي الأرباح يبلغ نحو 14 في المائة للفترة نفسها، وعلى مدى الـ 20 عاما الماضية نمت الأرباح بالمتوسط بنسبة 18 في المائة سنويا.خلاصة هذا الاستنتاج أن الأسهم الأمريكية مرتفعة بشكل أكبر مما يمكن تبريره من خلال نمو المبيعات أو صافي الأرباح، حيث وجدنا -من باب الاختصار- أن أسهم s&p500 نمت بنسبة 115 في المائة، بينما الأرباح نمت بنسبة 60 في المائة.هناك أسباب أخرى لتماسك الأسهم الأمريكية تعود إلى مستويات السيولة وتقلص فرص الاستثمارات الأخرى البديلة في أمريكا والعالم التي تفاقمت عقب أزمة كورونا. وهناك بالطبع أسباب أخرى نفسية تعود إلى سلوك المتداولين وتصرفاتهم التي تعد غير عقلانية، كما توصف في الاقتصاد السلوكي. وهناك سبب آخر أميل إليه شخصيا وهو أن هناك تحديات كبيرة بين كبار اللاعبين في الأسهم الأمريكية، وهي التي تجعل الأسهم متماسكة بها الشكل غير المسبوق. هذا التحدي عبارة عن مراهنة مجموعات من المضاربين على هبوط الأسعار وقيامهم بالبيع على المكشوف منذ عدة أعوام، وفي المقابل هناك مجموعات ترى أن عليها إلحاق أكبر قدر من الخسائر بحق هؤلاء المضاربين، وذلك بالاستمرار بدعم الأسهم وعدم السماح لها بالهبوط لمنع هؤلاء المضاربين من تحقيق مكاسب كبيرة.بلا شك ليس بالأمر الهين أن يستطيع أحد التحكم بالأسهم الأمريكية التي تقارب قيمها مجتمعة نحو 50 تريليون دولار، لكن من المؤكد أن هناك مراهنات على أسهم معينة، وهي حالات رأيناها بشكل مباشر في بعض الأسهم في الصيف الماضي، مثل “جيم ستوب” وغيرها، وبالتالي ليس مستبعدا أن تكون هناك مراهنات لكن بشكل أكبر بين لاعبين كبار ومؤثرين.أخيرا، فيما يخص الجوانب النفسية فهي عديدة ومعروفة، وجميع الدراسات لأوضاع الأسواق المالية دائما تشير إلى وجود عوامل إضافية تدخل في تحديد سعر الورقة المالية وتتسبب في اختلاف السعر عما تقول به النظريات المالية. من هذه العوامل أخطاء يرتكبها المتعاملون في تقديراتهم لأسعار الأسهم، بعضها تتم بشكل شعوري والبعض بشكل غير شعوري، وهناك ثورة صغار المتعاملين التي اشتهرت في العامين الماضيين وطريقة شرائهم واندفاعهم نحو الأسهم، حتى إن كانت تداولاتهم قليلة القيمة، إلا أن أعدادهم كبيرة وبالتالي تحدث هناك تحركات غير عقلانية تؤثر في حركة الأسهم.بعض الدراسات السلوكية تشير إلى أن بعض المتداولين يبحث عن المعلومات التي تؤيد انطباعه الإيجابي ويتجنب المعلومات التي تؤثر سلبا في انطباعه وتعارض رأيه، وهذه حالة نفسية تتجلى في مجالات عديدة -خارج نطاق الأسهم- إلا أن تكلفتها المالية عالية في عالم الأسهم. وهناك ما يعرف بتصرف القطيع أو عقلية القطيع التي بلا شك أنها موجودة في مجال الأسهم ولها تأثيرات كبيرة في حركة الأسهم، وهذا التصرف يعد حالة نفسية مرتبطة بغريزة إنسانية تجعل الإنسان يتبع غيره في حالات الهلع والخوف وعند غموض الموقف وقلة الحيلة.خلاصة الكلام أن حركة أسعار الأوراق المالية عموما، والأسهم خصوصا تحكمها ظروف أخرى غير الحسابات المالية والدراسات العلمية من أهمها الظروف النفسية للمتداولين التي تؤثر في قرارات الأفراد في بيع و**** الأسهم، وهذه الظروف النفسية ربما أخذت بعدا جديدا في الأعوام القليلة الماضية، وبالذات أثناء أزمة كورونا وبسببها. وربما هناك مناورات بين كبار المتعاملين تؤثر في الحركة الطبيعية للأسهم.
مواقع النشر (المفضلة)