في حين أغلقت مؤشرات الأسهم الأمريكية تعاملات يوم الجمعة السادس والعشرين من مارس الجاري، على ارتفاع ملحوظ بدعم من تفاؤل المستثمرين بآفاق الاقتصاد، وقبل أيام قليلة من ختام الربع الأول من العام، كان شيئًا كبيرًا ومريبًا يختمر داخل أروقة بورصة نيويورك رغم أن الصورة العامة للسوق أنه حقق مكاسب يومية وأسبوعية، فقد شهد عمليات محدودة (ولكن كبيرة) من مستثمر واحد لبيع 20 مليار دولار من الأسهم دفعة واحدة، يوم الجمعة، بمشاركة مصارف استثمارية رئيسية مثل "جولدمان ساكس"، ولم يُكشف عن هوية هذا المتعامل.في أول جلسة للسوق في الأسبوع التالي، أي أمس الإثنين، شهدت المؤشرات بعض التقلبات، وتأثرت أسهم البنوك بشدة، من جراء المخاوف بشأن البيع القسري للحيازات، وارتفع مؤشر "داو جونز" وحيدًا، فيما انخفض "إس آند بي 500" و"ناسداك" بشكل محدود نسبيًا.التحركات التي ارتبطت بمستثمر واحد (مؤسسي) للتخلص من حيازاته لسبب ما، نتج عنها خسائر بقيمة 35 مليار دولار من القيمة السوقية خلال تعاملات الجمعة، وشمل ذلك شركتي الإعلام الأمريكيتين، "ViacomCBS" و"Discovery"، اللتين خسرتا 15% من قيمتيهما.وعلاوة على ذلك، أشارت تقارير إلى أن بنكي "نومورا" الياباني و"كريدي سويس" يواجهان خسائر بالمليارات، بسبب علاقتيهما بالعميل الذي لم يذكر اسمه علانية، وانخفض سهما البنكين بنسبة 16% على الأقل.وأثرت المخاوف على أسهم بنوك أخرى كبيرة مثل "مورجان ستانلي"، وارتفع مؤشر الخوف في وول ستريت "فيكس"، في إشارة إلى القلق الذي انتاب الأسواق.. فما الذي حدث بالضبط، ولِمَ كل هذه الجلبة إذا كانت الأسواق لا تزال محتفظة بمكاسبها؟سوابق في الإخفاق- هذه الجلبة سببها بكل بساطة، التفاصيل غير المعلنة، والتي تركت الباب مفتوحًا لاجتهادات الصحافة، والتي كشفت وقائع الحدث المثير للريبة في وول ستريت، وربما تتسبب في تحركات تنظيمية أو إجراءات قد ينجم عنها سلسلة من الأحداث في الأسواق وخسائر مالية واسعة النطاق.- كشفت التقارير الصحفية خلال عطلة نهاية الأسبوع، عن إجبار صندوق " Archegos Capital Management"، على تسييل أسهم قيمتها 20 مليار دولار، في سلسلة من التداولات الكبيرة جدًا، والتي وصفها مستثمرون بأنها "غير مسبوقة".- بعيدًا عن مسألة الإجبار الآن، فإن هذا الصندوق الذي يعمل كمدير ثروة للعائلات الغنية، يُدار من قبل مدير صندوق التحوط السابق "بيل هوانغ"، والذي تورط سابقًا في عمليات تداول استندت إلى معلومات مسربة من داخل الشركات، ورفضت مصارف من بينها "جولدمان ساكس" التعامل معه.- في عام 2012، أقر صندوق التحوط "Tiger Asia Management" الذي أسسه "هوانغ" في نيويورك بأنه مذنب فيما يخص استخدام معلومات داخلية لتداول أسهم البنوك الصينية، ووافق على تسوية بقيمة 60 مليون دولار، وخسر أرباحًا بقيمة 16 مليون دولار، وأُلزم بإعادة الأموال إلى المستثمرين، ثم أُغلق الصندوق.- لكن بفضل قدرته على جذب عشرات الملايين من الدولارات من العمولات سنويًا، أزال "جولدمان ساكس" اسم "هوانغ" من القائمة السوداء وسمح له بأن يكون عميلًا رئيسيًا، وفعلت بنوك أخرى رئيسية نفس الأمر، وقدمت له خطوط ائتمان بمليارات الدولارات لخوض مراهناته الكبيرة.- الآن وجد "هوانغ" والمصارف الداعمة له، أنفسهم في وسط واحدة من أشد عمليات "نداء الهامش" حدة على الإطلاق، حيث اضطر إلى عمليات تسييل مؤلمة وفوضوية في محفظته الكبيرة لإغلاق مراكز ال**** بالهامش التي لم يعد قادرًا على تغطيتها.. وقبل سرد تفاصيل قصة "هوانغ" ينبغي معرفة الممارسة التي يعتمدها.ما التداول بالهامش؟- يحتوي حساب الهامش للمستثمر على أوراق مالية تم شراؤها بأموال عادة ما تكون مزيجًا من أموال المستثمر الخاصة والأموال المقترضة من وسيط المستثمر، ويكون الأصل المُشترى هو الضمان. تعرف أكثر على ضوابط هذه الممارسة من هنا.- مثلًا، إذا كان المستثمر يمتلك 500 دولار فقط، ويرغب في **** أسهم بقيمة 2000 دولار، فله أن يفتح حسابًا بالهامش لدى الوسيط، وتصبح لديه محفظة بالقيمة المرغوبة، لكن نصفها سيكون ممولًا عبر قرض من هذا الوسيط، وستظل الأسهم ضمانًا للمقرض بحيث يحق له إعادة تملكها وبيعها.- يحدث نداء الهامش أو "استدعاء الهامش" عندما تنخفض قيمة حساب الهامش للمستثمر عن المبلغ المطلوب من قبل الوسيط الذي يطلب من المستثمر إيداع أموال أو أوراق مالية إضافية في الحساب، بحيث يصل إلى الحد الأدنى للقيمة المطلوبة للحفاظ على استثماره المدعوم بالتمويل، ويعرف ذلك باسم هامش الصيانة أو هامش التغطية الأدنى.- في المثال السابق، لو أن الوسيط يطلب هامش صيانة نسبته 25% من المحفظة أي 500 دولار، فإن المستثمر في البداية سيكون وصل لهذا الحد، لكن مع مرور الوقت لو انخفضت قيمة الأسهم ستخصم خسائر المقرض من حساب المستثمر، وفي هذه الحالة لن يلبي رصيده حد التغطية الأدنى، ويحق للوسيط إجراء "نداء الهامش".- تمنح هذه الممارسة المستثمر فرصة (عادة ما تكون يومًا أو يومين حسب الاتفاق) لإيداع ما يكفي من المال في حسابه للوصول إلى حد التغطية، وفي حل تعذر ذلك، يمكن للوسيط المالي بيع الأسهم حتى يصل إلى حدود التغطية المطلوبة. في بعض الأحيان قد لا تكون تصفية المحفظة كاملة كافية لسداد القرض، فيصبح المستثمر مدينًا بالمال حتى بعد خسارة كل استثماراته.البنوك تنقلب على "هوانغ"- بالعودة إلى قصتنا.. أرسل "جولدمان" ساكس، مساء الجمعة المشار إليه، بريدًا إلى عملائه ينوه فيه بأنه كان أحد البنوك التي شاركت في عملية البيع القاسية، حيث أجرى معاملات قدرها 10.5 مليون دولار، لكنه لم يشر إلى اسم "هوانغ" أو "أركيغوس"، وقلل من أهمية الخسائر المترتبة.- "هوانغ" الشهير باسم "شبل النمر" عُرف بأنه يتبنى استراتيجية طويلة/ قصيرة المدى تعتمد على الرافعة المالية الكبيرة بشكل استثنائي، وبقول آخر، فإنه مقابل كل دولار واحد خاص به مُستثمر كان يقترض عدة دولارات أخرى لاستثمارها.- مع فشل رهاناته طالب السماسرة الرئيسيين "هوانغ" بمزيد من الضمانات لدعم قروض الهامش الخاصة به، وبحلول صباح الجمعة، بدأت بعض البنوك بما فيها "جولدمان ساكس" في ممارسة حقها في إعلان تعثره وتصفية مراكزه لاستعادة رؤوس أموالها.- تعرضت استثمارات "هوانغ" للضغط في البداية بعدما فشلت عملية طرح أسهم بقيمة 3 مليارات دولار لـ"فياكوم" من خلال "مورجان ستانلي" و"جيه بي مورجان"، ما ترتب عليه عمليات بيع واسعة للسهم، وفي النهاية اندفعت البنوك في عملية بيع مجنونة أوسع لحيازات "هوانغ" بالهامش، أملًا في تجنب خسائر الأسهم التي ستواصل الانخفاض.- تركزت هذه العمليات على 8 أسهم، منها "بايدو" الصينية للتواصل الاجتماعي، و"تينسنت ميوزيك" و"فياكوم سي بي إس" و"ديسكفري"، وتراوحت حدة انخفاضها في جلسة الجمعة بين 2% و27%، لتسجل خسائر إجمالية قاربت 35 مليار دولار.
يتبع
مواقع النشر (المفضلة)