التلاعب ببيانات "هاليبرتون" .. كيف تورط نائب الرئيس الأمريكي الأسبق في فضيحة عملاق خدمات الطاقة؟
هل يضمن ختم المراجع الخارجي الموجود على التقارير المالية للشركة أن تلك التقارير موثوقة؟ الإجابة قطعًا لا.. على سبيل المثال، قبل 23 عامًا، وافقت شركة المراجعة الأمريكية "آرثر آندرسن" على قرار واحدة من أكبر الشركات في الولايات المتحدة بعدم الإفصاح عن تعديلات مهمة أدخلتها على سياساتها المحاسبية بزعم أنها تعديلات أو إجراءات لا مادية.
هذا التغافل عن إعلان هذه التعديلات ساهم في خداع جمهور المساهمين الذين رأوا البيانات المالية للشركة في صورة أفضل مما هي عليه في الواقع، ولكن في النهاية كشف كل شيء، بعد أن فجّر الإعلام الأمريكي القصة بعد سنوات من الخداع التي تورط فيها على ما يبدو واحد من أشهر الساسة في تاريخ الولايات المتحدة.
في عام 2002 نشرت صحيفة "نيويورك تايمز" تقريرًا صحفيًا صادمًا أشارت فيه إلى أن شركة الطاقة والإنشاءات الأمريكية الشهيرة "هاليبرتون" أجرت تعديلًا سريًا على سياساتها المحاسبية قبل ذلك التاريخ بأربع سنوات وتحديدًا في عام 1998، وهو التعديل الذي مكنها من تسجيل أكثر من 100 مليون دولار من التكاليف المتنازع عليها مع عملائها في بند الإيرادات بقوائمها المالية.
لم تكشف "هاليبرتون" عن التعديل الذي أدخلته على سياساتها المحاسبية إلا بعد مرور أكثر من عام على نشر تقرير الصحيفة الأمريكية، والذي قامت لجنة الأوراق المالية والبورصات في الولايات المتحدة على إثره بفتح تحقيق موسع أدى في النهاية إلى توجيه اتهامات إلى عدد من مسؤولي "هاليبرتون" بتقديم تقارير مالية مضللة.
البيت الأبيض في قلب الفضيحة
من اللحظة الأولى، حصلت القضية على اهتمام غير عادي من وسائل الإعلام ومختلف المشاركين في السوق، وذلك بسبب هوية الرئيس التنفيذي للشركة الذي حدثت خلال ولايته تلك المخالفات المحاسبية، وهو نائب الرئيس الأمريكي السابق "ديك تشيني"، ولكن في الوقت الذي تفجرت فيه القضية كان "تشيني" قد غادر رئاسة الشركة إلى البيت الأبيض نائبًا لـ"جورج بوش" ال***.
ولكن هذا لم يمنع مساهمي الشركة من رفع دعوى قضائية جماعية ضد "تشيني" وغيره من المسؤولين التنفيذيين في "هاليبرتون" يتهمونهم فيها بقيادة مخطط ضخم للاحتيال على المستثمرين، ولسخرية القدر حدث ذلك في اليوم التالي لليوم الذي دعا خلاله "بوش" إلى محاربة وقمع الانتهاكات المحاسبية من قبل الشركات المدرجة بسوق الأسهم، مما سبب إحراجًا للبيت الأبيض في ذلك الوقت.
كان "بوش" قد دعا إلى فرض عقوبات بالسجن أكثر صرامةً على مسؤولي الشركات المتورطين في الاحتيال، ودعم لجنة الأوراق المالية والبورصات وجعلها أكثر قدرة على الكشف عن عمليات الاحتيال في التقارير المالية.
وما زاد من حرج الإدارة الأمريكية، وقتها هي العلاقات الوثيقة التي كانت تجمع بين "تشيني" وشركة المراجعة الشهيرة "آرثر آندرسن" والتي تعرضت لانتقادات شديدة بسبب دورها في الفضيحة الأشهر على الإطلاق في تاريخ سوق الأسهم الأمريكي، فضيحة "إنرون"، كانت "آندرسن" هي المراجع الخارجي المسؤول عن التدقيق في بيانات "هاليبرتون" خلال الفترة التي حدث فيها التعديل المحاسبي المريب.
ما الذي حدث بالظبط؟
كانت مشاكل "هاليبرتون" تكمن في طريقة معاملاتها للتكاليف الزائدة لمشاريع البناء التي تتجاوز الميزانية المتفق عليها مع العملاء، اعتمادًا على شروط العقد وطبيعة التجاوز وحجمه، يمكن لـ"هاليبرتون" استرداد التكلفة الزائدة من العملاء، وهنا حدث التلاعب، قبل عام 1998، كانت الشركة لا تسجل التكاليف الزائدة والمتنازع عليها مع العملاء إلا بعد أن تقوم بتحصيلها فعلًا.
ولكن، بدءًا من الربع الثاني من عام 1998، ابتعدت "هاليبرتون" عن ممارستها المحاسبية التقليدية وبدأت في الاعتراف بالتكاليف المتنازع عليها والمشكوك في تحصيلها كإيرادات فورًا، مما جعل إيراداتها تبدو في صورة أفضل مما هي عليه في الواقع.
بفضل المعالجة المحاسبية الجديدة، زادت إيرادات الشركة على الورق بواقع 200 مليون دولار في الفترة ما بين الربع الثاني من عام 1998 والثالث من عام 1999، وفي الربع الرابع من عام 1998، أدى هذا التعديل إلى زيادة الأرباح المبلغ عنها قبل احتساب الضرائب بنسبة 46%.
لم تكن أرقام الإيرادات والأرباح التي شاهدها مساهمو "هاليبرتون" بالتقارير المالية للشركة خلال تلك الفترة قابلة للمقارنة مع الفترة السابقة؛ بسبب هذا التعديل في السياسات المحاسبية، مما يعني أنه لم يكن بإمكانهم تكوين صورة دقيقة عن اتجاهات ربح "هاليبرتون" التي لم تعلن عن هذا التغيير المحاسبي إلا في مارس من عام 2000.
لم تنته ممارسات "هاليبرتون" المتلاعبة عند هذا الحد، ففي عام 2001 أدخلت الشركة تعديلًا آخر على سياستها المحاسبية في الاعتراف بالإيرادات، حيث بدأت في تسجيل المبيعات قبل أشهر من تحصيل الإيرادات من العملاء، في السابق، كانت سياسة الشركة هي تسجيل المبيعات في بند الإيرادات فقط في حال كانت تتوقع قيام العملاء بالدفع في غضون شهر واحد.
كيف خرج منها "تشيني"؟
ما زاد الطين بلة، هو أن الشركة بدأت في الاحتفاظ بقيمة بعض الفواتير المتنازع على تحصيلها مع العملاء في دفاترها المالية لأكثر من عام بدلًا من شطبها وتسجيلها كخسائر، وذلك بعد أن كانت في السابق تمتنع عن الشطب فقط في حال اعتقدت أنه بوسعها تحصيل الفواتير المتنازع عليها في غضون عام، ونتيجة لذلك تضاعفت قيمة الفواتير المتنازع عليها مع العملاء من 113 مليون دولار في عام 2000 إلى 234 مليون دولار في 2001.
هذا التلاعب المحاسبي كانت غايته مساعدة إيرادات "هاليبرتون" على أن تبدو في صورة أفضل من أجل تخفيف الضغط على الشركة في سوق الأسهم، خصوصًا بعد تراجع إيراداتها من أعمالها الرئيسية في مجال خدمات الطاقة، في الربع الأخير من عام 1998 انخفضت المبيعات والأرباح على مستوى الشركة بالمقارنة مع الربع نفسه من العام السابق.
في الثالث من أغسطس 2004، أعلنت لجنة الأوراق المالية والبورصات أنها توصلت لتسوية مع شركة "هاليبرتون" ومراقبها المحاسبي "روبرتسيموشمور"، سيدفع بموجبها الأخيران غرامة قدرها 7.5 مليون دولار و50 ألف دولار بعد إدانتهما بتقديم بيانات محاسبية مضللة عن أعمال الشركة للمساهمين.
في الوقت نفسه، أشار محامي نائب رئيس الأمريكي السابق "ديك تشيني" إلى أن لجنة الأوراق المالية والبورصات حققت في الأمر بدقة شديدة ولم تجد لـ"تشيني" أو لفريقه التنفيذي أي مسؤولية عن عدم إفصاح الشركة عن التعديلات التي أدخلتها على سياساتها المحاسبية وقت حدوثها، كما رفض الإجابة عن سؤال الصحفيين حول ما إذا كان "تشيني" يعرف مسبقًا تأثير تلك التعديلات المحاسبية على أرباح "هاليبرتون". وهكذا خرج رجل أمريكا القوي من الأمر كالشعرة من العجين وبلا أي مشاكل.
المصادر: أرقام – نيويورك تايمز – لجنة الأوراق المالية والبورصات– واشنطن بوست
كتاب: Financial Statement Fraud: Strategies for Detection and Investigation
مواقع النشر (المفضلة)