شابٌ فقيرٌ لا يملك من حطام الدنيا شيئًا جاءت به أمه من أقاصي الريف الهندي إلى مدينة فاراناسي العريقة في التاسع عشر من إبريل؛ بحثًا عن مستشفى يقبله ويضع حدًا لما يعانيه من آلام؛ بسبب مرض الكلى، من مستشفى إلى آخر تحمل الأم ابنها ولكنها تجد الأبواب مغلقة في وجهها لعدم وجود أي أسرّة متاحة في المستشفيات في ظل اكتظاظها بالحالات المصابة بفيروس كورونا الذي خرج عن نطاق السيطرة تمامًا في الهند خلال الأسابيع الأخيرة.
في الشارع وأمام باب أحد المستشفيات الذي لم يجد له مكانًا بداخله مات "فيناي سينج" البالغ من العمر 29 عامًا بين يدي أمه المسكينة التي لم تجد حتى عربة إسعاف؛ كي تنقل جثمان فلذة كبدها إلى مثواه الأخير، ليزداد بؤس المشهد حين اضطرت الأم أن تحمل جثمان الابن على عربة متهالكة (توكتوك)، بينما تدلت أطرافه من الجانبين ولامست الأرض، في مشهد مأساوي لم نكن لنعلم عنه شيئًا لو لم تلتقطه عدسات بعض ممن حضروه.بعدها بأيام قليلة فقط، وفي مدينة أخرى تدعى "كانبور"، ضاق شاب هندي ذرعًا بأمه المريضة بفيروس كورونا والتي تعاني بسببه من ضيق في التنفس فحملها ووضعها على جانب أحد طرقات مدينة تشاكيري الهندية؛ خوفًا على نفسه من الإصابة بالفيروس، رأى الأهالي الأم "الثكلى" ملقاة على الأرض فحملوها إلى أحد المستشفيات المحلية ولكنها سرعان ما فارقت الحياة، ليتبادر إلى الذهن سؤال صعب: هل فقدت هذه السيدة حياتها بسبب الفيروس أم قتلها ولدها؟ورغم مأساوية المشهدين اللذين لا يفصل بينهما سوى بضعة أيام، إلا أنهما في الحقيقة مجرد صورة مصغرة لما يحدث في الهند في الفترة الأخيرة؛ فالدولة الآسيوية التي يقترب عدد سكانها من 1400 مليون نسمة تشهد هذه الأيام أكبر معدل إصابة يومي بفيروس كورونا في العالم؛ حيث يتخطى عدد الحالات المصابة حاليًا حاجز الـ300 ألف حالة، وعلى مدار الأيام السبعة الممتدة بين الثاني والعشرين من إبريل والثامن العشرين من الشهر ذاته بلغ إجمالي الحالات الجديدة نحو ثلاثة ملايين.كارثة بكل المقاييس تسببت في إطلاق تسونامي الموت الذي حصد أرواح ما يزيد على 200 ألف هندي حتى الآن، والأعداد لا تزال في ازدياد ولا توجد بارقة أمل تلوح في الأفق، كل هذا يدفع الناس للتساؤل: ما الذي يحدث بالضبط في الهند؟ وكيف تحول وضعها مع فيروس كورونا من طبيعي إلى كارثي في غضون أسابيع قليلة؟ ماذا حدث؟ ومَن السبب؟كورونا لم يذهب ليعود!على مدار عام 2020 كان العالم شاهدًا على عجز الأنظمة الصحية في عدد من الدول الغربية الغنية مثل إيطاليا والولايات المتحدة على مواجهة تداعيات انتشار فيروس كورونا، الوضع الصعب الذي مرت به هذه الدول التي من المفترض أنها أكثر استعدادًا من غيرها، جعل كثيرين يتوقعون أن الدول الأفقر مثل الهند لن تنجو أبدًا وسرعان ما سيتحول الوضع لديها إلى كارثة.وفي الحقيقة إن هذا التوقع كان منطقيًا إلى حد كبير، بالنظر إلى أن النظام الصحي في بلد مثل الهند ضعيف وهش، كما أن الكثافة السكانية الكبيرة فيها وبالأخص في المنطاق الحضرية تجعل من إجراءات التباعد الاجتماعي عملية شبه مستحيلة، وفي الوقت نفسه تعاني البلاد بالفعل من معدلات مرتفعة من الإصابة بأمراض مثل السل والملاريا، كل هذه العوامل كانت تنذر بكارثة محققة، ولكنها لحسن الحظ لم تقع.تمكن الهند من تجنب الانهيار أمام جائحة كورونا لما يقرب من عام مرده إلى عدة عوامل من بينها الإجراءات السريعة التي اتخذتها الحكومة الهندية للسيطرة على الوضع؛ ففي الرابع والعشرين من مارس في العام الماضي أمرت حكومة رئيس الوزراء الهندي "ناريندرا مودي" بإغلاق البلاد لمدة 21 يومًا، كإجراء وقائي ضد جائحة كورونا، وهناك عامل آخر مهم وهو أن النسبة الأكبر من سكان الهند هم من صغار السن الذين لديهم قدرة أكبر من غيرهم على تحمل المشاكل الصحية الناتجة عن الإصابة بالفيروس.في سبتمبر الماضي وصلت الهند إلى ذروة منحنى الإصابات في 2020، وبدأ عدد الحالات المصابة في التراجع مع اقتراب نهاية العام لفترة من الوقت بدا وكأن الأمور تتحسن في الهند، وشعر الناس بأن الأسوأ أصبح الآن خلف ظهورهم، وهو ما أكدته تصريحات الحكومة الهندية وحلفائها.كيف قادت الحكومة الهندية الشعب إلى حتفه؟في الشهر ذاته زعم حزب بهاراتيا جاناتا (BJP) الذي ينتمي إليه "مودي" خلال انتخابات مجلس النواب في ولاية بيهار أن الولاية ستكون خالية من فيروس كورونا قريبًا، وفي أكتوبر من نفس العام خرج المتحدث باسم الحزب الحاكم ليؤكد لـ"بي بي سي" أن الهند ستعود لطبيعتها قريبًا.أما التصريح الأهم فهو الذي الذي خرج في السابع من مارس من العام الحالي، على لسان وزير الصحة الهندي "هارش فاردان" الذي أعلن بفخر أن بلاده على مقربة من التغلب بشكل كامل على جائحة كورونا، مشيرًا إلى "نهاية لعبة كوفيد-19"، وذلك قبل أن يشيد بقيادة رئيس الوزراء الهندي "ناريندرا مودي" وحكومته القومية الهندوسية في مكافحة الوباء، ولكن لسخرية القدر لم تمر عدة أسابيع قبل أن يتحول الوضع في الهند إلى جحيم؛ بسبب جهل وغطرسة السياسيين من جهة، واستهتار وإهمال العامة من جهة أخرى.هذه التصريحات وأخرى غيرها ساهمت في تخلي الهنود عن حذرهم في التعامل مع فيروس كورونا، فاستجابوا لدعوات السياسيين المناشدة لهم من أجل حضور المسيرات الانتخابية الحاشدة التي كان من المقرر أن يلقي رئيس الوزراء الهندي نفسه كلمة أمام 20 منها، تصرف "مودي" وحكومته وكأن الفيروس قد اختفى أو أنه لا يأبه لمصير الناس ولا يهمه سوى إعادة انتخابه حتى لو كان على حساب أرواحهم.وما زاد الطين بلة هو أن حكومة ولاية أوتاراخاند الهندية سمحت بإقامة مهرجان "كومبه ميلا" الديني هذا العام في مدينة هاريدوار، حيث يقام هذا المهرجان كل أربع سنوات، في دورة بين أربع مدن هندية هي: الله آباد وهاريدوار وأوجان وناشك، وهذا العام جاء الدور على مدينة هاريدوار التي توافد إليها في أبريل أكثر من مليوني حاج هندوسي ليقفوا على ضفاف نهر الغانج ويغسلوا أنفسهم في مياهه متجاهلين مخاطر الإصابة بفيروس كورونا.كل هذه القرارات والتقديرات الخاطئة ساهمت في دفع الهند نحو أسوأ سيناريو ممكن، وهو انهيار النظام الصحي المهترئ والهش للبلاد أمام الأعداد الهائلة للمصابين، الآن الوضع في الهند كالتالي لا توجد أسرّة متاحة في المستشفيات، والأطقم الطبية غير كافية، كما يوجد نقص شديد في الأدوية والأكسجين، وفي ظل إحساسها بالغرق بدأت الحكومة الهندية في الارتجال.كان من المفترض أن يقوم "معهد أمصال الهند" (Serum Institute of India) – وهو أكبر منتج للقاحات في العالم – بتزويد الدول الفقيرة في العالم وتحديدًا في إفريقيا بكميات معينة من لقاحات فيروس كورونا وفقًا لمخطط "كوفاكس" التابع لمنظمة الصحة العالمية.لكن الحكومة الهندية قررت الآن تحويل الجرعات المنتجة من قبل المعهد لصالح السوق الهندي، والنتيجة هي انخفاض صادرات الهند من لقاح كورونا إلى 1.2 مليون جرعة في أبريل مقارنة مع 64 مليون جرعة في الأشهر الثلاثة السابقة.
يتبع
مواقع النشر (المفضلة)