على أثر ارتفاع أسعار النفط والعلاقة التاريخية بين ارتفاع الدخل والنفقات قرأت تجربة وملاحظات اقتصادي "جانس كورناي مجري توفي أكتوبر 2011" عاصر التحولات الاقتصادية والاجتماعية في المجر قبل أن ينتقل إلى أمريكا ليعلم الاقتصاد في هارفارد. تجربته مهمة على أكثر من صعيد، فمن ناحية تجربة المجر معتبرة في إدارة التحولات الاقتصادية من الاشتراكية إلى اقتصاد السوق بما في ذلك تجربة التخطيط الرأسي ومن ناحية أخرى طرحه الأكاديمي المميز بعد تجربة عملية وأكاديمية امتدت من نقده النظام الاشتراكي إلى نقده بعض نواحي الطرح الغربي. تعرض لعدة قضايا ولذلك سأكتفي بواحدة سماها soft budget constraints - القيود الناعمة على الميزانية. الفكرة بدأت في النظام الاشتراكي ولكنها وجدت تطبيقات في أنظمة اقتصاد السوق حتى الغربية منها، لذلك ربما نجد منها ما يفيد.
سيطرة الحكومات على شركات كبيرة في قطاعات متعددة لا تقتصر على نظام اقتصادي معين أو دولة واحدة ولكنها تجربة تتكرر وما يجمعها أنها نادرا ما يسمح لها بالفشل لأسباب كثيرة، منها إما لأنها شركات منافع عامة وإما لأسباب التوظيف أو لأسباب سياسية أو مجرد مصالح محددة. ما يهمنا هنا أن دور الربحية كعامل انضباط في إدارة عدد من الشركات العامة محدود وبالتالي تدار هذه المؤسسات تحت ضوابط مالية رخوة وأنظمة حوكمة تسمح بالاستمرار في نهج غير اقتصادي ولذلك جاءت التسمية - قيود ميزانية ناعمة. الجدل لاستمرارها أحيانا يصبح موضوعيا في غياب عملية إصلاح شاملة وهذه عادة ترفع درجة التحدي مجتمعيا. ربما مثال حي في منطقتنا ما يحدث لشركة الكهرباء في لبنان. هناك عشرات من شركات ومؤسسات القطاع العام في كل دول المنطقة تمر بدرجات مختلفة من التعايش مع قيود ميزانية ناعمة. لعل أهم تأثير في الاقتصاد أن القيود الناعمة تصب في الأخير إلى نقص في الخدمات والسلع التي تنتجها هذه المؤسسات لأن التوسع دون انضباط اقتصادي والتنافس على الموارد المالية يجر في الأخير إلى نقص وسوء إدارة، أحد إفرازات سيطرة الملكية العامة على الاقتصاد نقص السلع والخدمات مستقبلا لسببين الأول أن إدارة الموارد تضعف تدريجيا والثاني أن الرسائل الظاهرة والضمنية في الاقتصاد يضعف وميضها إلى حد الاختفاء. عدم السماح بالإفلاس يقود إلى عدة خطوات للاستمرار وتفادي الحلول الإصلاحية الشاملة مثل خفض الضرائب وتغيير الإدارة والقروض الميسرة وطلب استمرار الدعم. تدريجيا امتدت الفكرة إلى نواح كثيرة في الحياة، وأخذ بها عديد من الاقتصاديين واقترح عدة نماذج لتأطيرها ومعالجتها.
ظاهرة القيود الناعمة على الميزانية لا تقف عند الشركات بل تمتد إلى العائلات والشركات والمنظمات في القطاع الثالث والمشاريع التي لا تخضع لحسابات الربحية. ولكن أم المعارك في كثير من دول المنطقة هو التوظيف في القطاع العام. إشكالية التوظيف بالجملة أنه يجعل أعدادا كبيرة ركابا بالمجان. لا بد من الإشارة إلى أن القيود تختلف في درجة حدتها، فمثلا القيود أحيانا خشنة مع إدارة ميزانية العائلة ولكنها ناعمة مع إدارة بعض شركات المنافع. كلما كانت القيود ناعمة لمدة أطول زادت فرص نقص السلع والخدمات في المستقبل. ما يجعل الظاهرة معقدة وصعبة الحلول أنها في ظاهرها اقتصادية ولكنها أكثر تشعبا وتمتد إلى نواح أخرى في إدارة المجتمعات. أغلب الحلول عادة تدور حول عملية إنقاذية واسعة تشمل دفعة معتبرة من الحكومة لكي تكون آخر مرة وتغير في الإدارة وحتى تغير في بعض النواحي النظامية والتنظيمية ولكنها في الأغلب حل مؤقت في ظل غياب حلول عضوية شاملة تصب في الحد من الراكب المجاني وترشيد الدعم وجرعة من المنافسة وهذا ما أخذت به المملكة في إصلاح قطاع الكهرباء.
مواقع النشر (المفضلة)