قبل أكثر من عام من الآن، كان يُنظر إلى مفهوم "الدخل الأساسي العالمي" باعتباره حديثًا عن رفاهية الشعوب الزائدة لا الأساسية، وشهد الجدال حوله استقطابًا حادًا بشأن ما إذا كان نافعًا للأمم والاقتصادات أم مضرًا.
هذا المفهوم ببساطة يعني حصول الأشخاص على مدفوعات نقدية بغض النظر عما إذا كانوا يعملون أم لا، ودون تدخل في كيفية إنفافه، كنوع من الإعانة لمواجهة تكاليف المعيشة وتحسين مستواها ولتخفيف العبء النفسي، وعلى جانب آخر باعتباره دعمًا للإنفاق الاستهلاكي الذي يعزز النمو الاقتصادي.
التجارب المتعلقة باختبار هذا المفهوم، كانت محدودة النطاق، حيث تم تنفيذها على نطاق جغرافي صغير في مجموعة من الدول مثل فنلندا وأمريكا وكندا، وشملت أعدادًا محدودة أيضًا من المشاركين، ومع ذلك كان الجدال على أشده.
فعلى الجبهة المقابلة للمؤيدين، رأى المعارضون، أن هذا المفهوم سيكون له أثر سلبي يتمثل في ارتفاع مفاجئ لأسعار السلع، علاوة على أنه يستدعي تضخيم موازنات الحكومات لتلبية هذا الالتزام الإنفاقي الهائل، وذلك قد يتطلب زيادة الضرائب بشكل كبير.
الحديث عن محاسن ومساوئ وكيفية تطبيق هذا المفهوم امتد لفترة لا بأس بها، وكذلك التجارب المتعلقة به والتي حققت نتائج مبهرة وأخرى مقلقة في حالات مختلفة، لكن الجدال تلاشى تقريبًا منذ ظهور فيروس كورنا المستجد وتحوله إلى جائحة تعصف بالصحة والاقتصاد، حيث كانت للظروف كلمتها.
استجابة عاجلة
- في الحقيقة الفكرة العامة وهي أن تمنح الحكومة كل مواطن دفعة منتظمة من الأموال المجانية دون شروط، كانت موجودة منذ القرن السادس عشر، وظلت غريبة لعقود، وفقط في السنوات القليلة الماضية، اكتسبت الزخم وبدأت التجارب عليها.
- المخاوف بشأن البطالة وعدم المساواة، وكذلك القلق من سيطرة الروبوتات والذكاء الاصطناعي على سوق العمل، دعمت مثل هذه التجارب التي تعطي الحكومات أجوبة دقيقة حول التأثير الحقيقي لهذا المفهوم.
- مع ذلك، لم تكن المخاوف ضعيفة ولا نابعة من رؤى المحللين فقط، حيث رفض الشعب السويسري في استفتاء عام سنة 2016، خطة لدفع ما يعادل 2500 دولار شهريًا لجميع البالغين، بنسبة رفض جماهيرية وصلت إلى 80%.
- لكن فُرضت التجربة بالأمر المباشر في أماكن أخرى، لقياس أثرها، وحظيت بتأييد شخصيات مثل الملياردير "مارك زوكربيرغ" مؤسس "فيسبوك" ومن قبله الاقتصادي التحرري "ميلتون فريدمان" والمرشح الديمقراطي السابق للرئاسة في أمريكا "أندرو يانغ"، قبل أن تأتي الجائحة وتعطي الفكرة الدفعة التي افتقرت إليها طويلاً.
- مع تسبب الأزمة في الكثير من الخسائر المالية وعدم اليقين، ومع فشل حزم التحفيز الحكومية التقليدية في تلبية احتياجات الملايين، جادل المدافعون، بأن المواطنين بحاجة ماسة إلى نوع من الدخل المضمون، وفي جميع أنحاء العالم جربت بلدان هذا المفهوم.
- استجابت الحكومات حول العالم للأزمة، بفتح صنبور النقود الخاص بها، لتتدفق السيولة إلى جيوب الأفراد والشركات على حد سواء، ومنذ منتصف مارس حتى منتصف يونيو الماضيين، تلقى 1.1 مليار شخص مدفوعات نقدية.
- تمت الموافقة على الكثير من هذه المساعدات، مع القليل من المعارضة السياسية، نظرًا لتفهم الساسة ضغوط الجائحة، وشكلت التحويلات النقدية المباشرة للأفراد، تقريبًا، ثلث جميع السياسات الاجتماعية المرتبطة بالاستجابة للوباء، وفقًا للبنك الدولي.
من التجريب إلى التطبيق
- وجدت الحكومات أنفسها مجبرة على دفع مبالغ نقدية مباشرة إلى أعداد كبيرة من المواطنين (ملايين مقارنة ببضعة آلاف في التجارب السابقة) كي يتمكنوا من مواجهة تداعيات مثل البطالة، ومن أجل حثهم على الإنفاق لمساعدة الاقتصادات المتعثرة.
- أقر الكونغرس الأمريكي قانونًا للإغاثة في مارس 2020 يحتوي على بند لإرسال شيكات بدون قيود تصل إلى 1200 دولار إلى معظم البالغين بهوامش شبه إجماعية (تم إقرار حزمة أخرى من الشيكات في نهاية العام).
- تلقى سكان هونغ كونغ مدفوعات تبلغ قيمتها ما يقرب من 1300 دولار أمريكي، وأولئك الموجودون في اليابان بنحو 930 دولارًا، وحصل معظم البالغين السنغافوريين على قرابة 425 دولارًا.
- جربت بعض الحكومات المدفوعات التي يمكن استخدامها محليًا فقط، من خلال القسائم (كما هو الحال في مالطا) أو بطاقات الخصم المحملة مسبقًا (كما هو الحال في أجزاء من كوريا الجنوبية)، ولكن الإجراء الأكثر بساطة وشيوعًا كان إرسال النقود مباشرة.
- مع ذلك، فإن القليل من هذه المخططات يمكن اعتباره ضمن برامج "الدخل الأساسي العالمي"، ففي العالم الغني، كان معظم برامج الإغاثة النقدية عبارة عن تحويلات لمرة واحدة، تهدف إلى تحفيز الاستهلاك والتخفيف من صدمات الدخل.
- أما في البلدان الفقيرة، كانت التحويلات أقرب إلى مفهوم "الدخل الأساسي العالمي"، من حيث إنها كانت متكررة في كثير من الأحيان، لكن معظمها كان يستهدف الفقراء والضعفاء.
مستقبل الفكرة
- في أحدث نتائج للفكرة، خلصت تجربة استمرت عامين وأُعطي فيها 125 شخصًا في كاليفورنيا مبلغ 500 دولار شهريًا دون قيود أو شروط، إلى أن المشاركين تمكنوا من سداد ديونهم، وحصلوا على وظائف بدوام كامل إلى جانب تحقيقهم تحسناً "كبيراً" على جانب الصحة النفسية.
- امتدت التجربة من فبراير عام 2019 إلى نفس الشهر من عام 2021، وكان 28% من المشاركين لديهم وظائف بدوام كامل، وارتفعت هذه النسبة إلى 40% بعد عام واحد، واستطاع 62% منهم سداد الديون مقارنة بـ52% قبل ذلك، وتخلص معظمهم من الإصابات النفسية الخفيفة.
- على أي حال، وبالعودة إلى البرامج الأوسع نطاقًا التي طبقتها الحكومات بفعل الجائحة، فإن أعدادها تتضاءل مع اقتراب نهاية المرحلة الأشد خطورة من الوباء، ومن غير المتوقع تطور المساعدات الوبائية إلى خطط مستدامة للدخل الأساسي.
- مع ذلك، فإن التجربة الصادمة للوباء قد تجعل تبني هذا المفهوم أكثر احتمالًا في نهاية المطاف، إذ تشير استطلاعات الرأي إلى أن الشباب في أمريكا وأوروبا يدعمون هذه البرامج، كما يبدي السياسيون قبولًا لتوجهات تدعم في النهاية العودة لهذه البرامج.
- مثال ذلك، النظر في توفير دخل إضافي للأسر التي لديها أطفال في أمريكا، وتركيز حملة الانتخابات الرئاسية في كوريا الجنوبية على مفهوم "الدخل الأساسي".
- مع وضع التجارب الناجحة التي جرت قبل الوباء في الاعتبار، مثل تجربة كاليفورنيا المشار إليها سابقًا، وتجربة فنلندا في عام 2017، يبدو أن هذا المفهوم سيكون بمثابة الرهان الكبير التالي للقادة والسياسيين، لتعزيز الأمان الاجتماعي.
المصادر: أرقام- الإيكونوميست- الغارديان- موقع "Vox" الأمريكي
مواقع النشر (المفضلة)