الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ....أما بعد
فقد كثر التساؤل عن حكم عقد التأمين الذي حدث في هذا الزمن والذي أصبحت الحاجة إليه ملحة فبحث عدد من العلماء هذه المسألة بحثاً دقيقاً وأفتوا بجواز هذا العقد لأدلة أوضحوها في كتبهم فمن هؤلاء العلماء الشيخ عبدالله بن محمود رئيس محاكم قطر والشؤون الدينية سابقاً رحمه الله ومنهم فضيلة الشيخ مصطفى الزرقا رحمه الله.
وقد أفتيت بالجواز منذ زمن طويل وصرحت بذلك في درسي الذي كنت ألقيه في جامع فضيلة الشيخ سعد البريك في شرح العدة وكان الذي يقرأ فضيلة الشيخ سعد وكنت في مجلس مع سماحة شيخنا الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله وعرضت عليه رأيي في التأمين وأوضحت له أدلتي فأبتسم سماحته وقال هذا رأي مصطفى الزرقا فقلت له لم اقرأ كلام الشيخ مصطفى الزرقا ولكن المصلحة تقتضي تجويزه , فقال سماحته بعد قناعة : لابد من إعادة النظر في قرار هيئة كبار العلماء ا.هـ
والتأمين مسألة عصرية حادثة ونازلة جديدة لذا لا تجد لعلماء السلف كلاماً حولها ولكن نجد إشارات تشبه التأمين مما كان واقعاً عندهم فشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يجوز ضمان السوق وتجار الحرب وكذلك ضمان المجهول, قال في الإختيارات "ويصح ضمان المجهول, ومنه ضمان السوق, وهو أن يضمن ما يلزم التاجر من دين وما يقبضه من عين مضمونة." وقال أيضا "ويصح ضمان حارس ونحوه, وتجار حرب ما يذهب من البلد أو البحر. وغايته: ضمان مجهول ومالم يجب وهو جائز عند أكثر أهل العلم: مالك, وأبي حنيفة, وأحمد" [ ص195-196 دار العاصمة ط1].
والأصل في المعاملات الإباحة والله سبحانه وتعالى يقول{يا أيها الذين أمنوا أفوا بالعقود} وقد استدل العلماء بهذه الآية على أن الأصل في العقود الصحة والأصل في المعاملات الإباحة ومن يرى عدم جواز التأمين هو المطالب بالدليل الذي يخرج التأمين عن أصل الإباحة, ومن تأمل أدلة المحرمين يجدها أدلة عامة لا تنطبق على عقد التأمين, كتحريم أكل أموال الناس بالباطل والمقامرة والنهي عن الغرر.
ومن تأمل حال الناس وجدهم يمارسون التأمين من حيث لا يشعرون , فيأخذون رواتب التقاعد بدون تحرج وهو من التأمين وكذلك من مؤسسة التأمينات الاجتماعية بل والضمان الذي على السيارات والثلاجات وكافة الأجهزة فهي من التأمين ويندر أن لا يمارس هذا العقد أحد من الناس بل إن العلماء الذين يحرمون التأمين إما أن يكون بعضهم أحيل إلى التقاعد ويأخذ راتبه التقاعدي بدون تحرج وإما أن يكون بعضهم في وظيفة قيادية ويوقع على عقود الصيانة وهي من التأمين أيضاً ,ففي التقاعد مثلاً يؤخذ من راتب الموظف جزء مدة عمله في الحكومة فإذا أحيل للتقاعد أعطي راتبه بصرف النظر عن المبلغ الذي دفعه وقد يموت ويعطى بعض الورثة أو لا يوجد له ورثة فيذهب كل ما أخذ منه وقصد بالتقاعد , تأمين حياة الموظف المعيشية بعد تقاعده فمنهم من يأخذ أكثر مما اقتطع من راتبه والبعض الآخر قد لا يأخذ إلا جزء يسيراً مما اقتطع من راتبه وضمان الأجهزة و الصيانة قصد بها التأمين على هذه الأجهزة فقد لا يتعطل أي جهاز منها ويذهب المال الذي دفع للضمان أو الصيانة بدون مقابل وقد تتعطل أكثر الأجهزة فتتحمل الشركة أكثر من مبلغ الضمان أو الصيانة وهذا هو حقيقة التأمين.
ومن سبر تعامل الناس اليوم وما ينتج عن الحوادث المرورية وجد أن التأمين ضروري جداً , فهناك من التجار من يشتري بضاعه ويفاجأ عند وصولها إلى البلد أنها ليست المطلوبة ويصعب عليه تدارك الأمر أو تتلف بغرق السفينة أو يحترق المستودع فيصبح بعد غناه فقيراً وهناك من يتسبب في وقوع حادث مروري فيتحمل من الديات وقيم المتلفات ما لا قدرة له على دفعه وهناك من يراجع مستشفاً خاصاً فيتحمل قيمة العلاج أو العملية وهو لا يستطيع دفع أجرة العملية أو قيمة العلاج , فما هو الحل لمثل هذه المشاكل التي تسببت في سجن الكثير من الناس لإعسارهم بدون فائدة ؟ أعتقد أن الحل الوحيد هو التأمين فأذكر أنها قد عرضت علىّ قضية شخص باكستاني تسبب في حادث وهو يقود شاحنه توفي على أثر ذلك ستة أشخاص فحكم عليه بدياتهم وقيمة المتلفات وهو مبلغ كبير جداً وبقي في السجن عدة سنوات بدون فائدة بل تضررت عائلته بسبب سجنه واحتارت الجهة الرسمية في أمره فبقاؤه في السجن لا فائدة منه بل فيه ضرر عليه وعلى الدولة وإخراجه من السجن وترحيله يرفضه أصحاب الحقوق فكيف تحل مثل هذه المشكلة ؟ وأخيراً أثبت إعساره ورحل إلى بلده وضاعت حقوق المحكوم لهم عليه .
وإنني قد تأملت هذه المسألة وتأملت أدلة المانعين لهذا العقد فلم أجد لديهم عند التحقيق سوى نصوص عامة لا أجدها تنطبق على هذا العقد فيما يلي بيانها.
- أكل المال بالباطل:
فإستدلالهم بقوله عز وجل : {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} (سورة البقرة الآية 188) إنما هو في السرقة والغش والتدليس والتحايل ونحو ذلك .
قال القرطبي في معنى الآية " لا يأكل بعضكم مال بعض بغير حق. فيدخل في هذا: القمار, والخداع, والغُصوب, وجحد الحقوق, وما لا تطيب به نفس مالكه, أو حرَّمته الشريعة وإن طابت به نفس مالكه, كمهر البغيِّ, وحلوان الكاهن, وأثمان الخمور والخنازير وغير ذلك." [ج3 ص 223]
وفي عقد التأمين يدخل المتعاقدان برضاهما وبمعرفتهما بمضمونه , فلا تأخذ الشركة إلا ما جرى الاتفاق عليه وكون البعض يقول قد تدفع الشركة أكثر عند حصول حادث كبير أو قد لا يحصل للطرف الآخر ما يقتضي دفع الشركة شيئاً بسببه ,فنقول لهم ألم يأمر الرسول صلى الله عليه وسلم عاقلة الجاني وهم عصبته بدفع دية الخطأ وهم لم يفعلوا ما يقتضي إلزامهم بالدفع وقد يستفيد بعضهم من عاقلته وبعضهم قد لا يستفيد لأنه لم يتحمل دية ولم يتسبب في حادث مثله الصناديق التي لدى بعض القبائل يدفع الجميع ولا يستفيد إلا البعض لكن هذا من التكافل الاجتماعي حيث يتحمل العدد الكبير ما يجب على الشخص ليخف عليه ما كلف بدفعه , كما أن الذي يدفع هنا أو في التأمين إما أن يستفيد هو أو يستفيد بعض من دخلوا في هذا العقد فهو مع النية في نفع الآخرين مأجور فمن قصد رفع الضرر عن إخوانه ونفعهم فهو مأجور.
والإنسان يدفع من أجل شراء طمئنينة نفسه , وقديماً كان ما يعرف بالخفارة في الطرق لأجل حماية القوافل وكان أصحاب القوافل يدفعون مبالغ مالية من أجل حمايتهم والدفاع عنهم حال هجوم اللصوص عليهم وقد تصل القافلة دون أن تتعرض لهجوم فهل يعتبر ما أخذ من قبيل أكل أموال الناس بالباطل لأنهم لم يدفعوا عنهم اي خطر؟ , وقد يقول قائل: إن هؤلاء قدموا عملاً بأن صحبوا القافلة طوال مسيرتها فاستحقوا العوض لقاء الجهد فكذا نقول في التأمين حيث إن شركة التأمين تقدم عملا كالإشراف على البضائع وتقييمها ونحو ذلك فاستحقت العوض مقابل العمل.
-الغرر والجهالة:
أما قول المانعين: إن هذا من الغرر وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الغرر كما رواه مسلم في صحيحه , فالجواب: أن معنى بيع الغرر والجهالة هو, بيع مالا يعلم وجوده وعدمه, أو لا تعلم قلته أو كثرته, أو لا يقدر على تسليمه. فأصل الغرر هو الذي لا يُدرى هل يحصل أم لا كبيع الطير في الهواء والسمك في الماء, أما ما علم حصوله وجهلت صفته فهو المجهول كبيع ما في الكم ونحوه فهو يحصل قطعاً ولكن صفته مجهولة, ثم هل كل غرر محرم؟ أجمع الفقهاء على جواز العقود التي فيها غرر يسير كأساس الدار ونحوه وانما المنهي عنه هو الغرر الفاحش كبيع الطير في الهواء وبيع المضامين والملاقيح وبيع الثمار قبل بدو صلاحها لأن الغرر فيها فاحش فإذا بدى صلاح الثمار جاز بيعها مع أن هناك غرراً وجهالة ولكنه أقل من سابقه فجاز, والأمثلة على جواز العقود التي فيها غرر وجهالة ولكنها مغتفرة كثيرة كاستئجار المرضعة بطعامها وشرابها وكسوتها فالمرضعة لا تعلم عدد الرضعات ولا كميتها ومن ترضع له لا يعرف مقدار الطعام التي تحتاجه ولاكسوتها.
ومن تأمل في عقد التأمين يرى أنه لا غرر هنا لأن من يدفع المال يعرف أنه لا يرجع إليه وإنما لو حصلت عليه كارثة دفعت عنه والنبي صلى الله عليه وسلم أمر بوضع الجوائح وقال "بما تستحق مال أخيك" فالذي يدفع القسط وقد لا يستفيد مثل الذي يدفع أجرة الحارس ولم يأت من يسرق أو الذي يدفع أجرة الخفارة في السفر لحمايته من قطاع الطرق كما ذكره الفقهاء وقد لا يتعرض له أحد, كما أن المبلغ الذي يدفعه هو من جملة المصاريف اليومية أو الشهرية في استهلاك الكهرباء أو الهاتف أو الوقود أو غير ذلك من المبالغ التي تفوق ما يدفعه في التأمين كما أنه ليس كل غرر محرم في الشريعة فهناك من الغرر ما هو مغتفر كما نصت على ذلك النصوص فمع أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الغرر إلا أنه يجوز في الشريعة شراء الدابة الحامل مع جهالة الحمل وبيع الدار مع جهالة أساساتها والثمار قبل بدو صلاحها تابعه للبستان ونحو ذلك وجاءت القاعدة الشرعية بأنه يصح تبعاً مالا يصح استقلالاً.
- القمار:
وأما قولهم: إنه من الميسر والمقامرة فهذا ليس بصحيح فإن المقامرة من المخاطرة فالذي يدخل فيها يريد الربح الكثير وقد يخسر جميع ماله فهو دخل من أجل الربح, والربح قد يحصل وقد لا يحصل فالمقامر يتحمل المقامرة لأنها من صنع نفسه,أما المؤمِّن فيدفع الخطر الذي يعترض له نتيجة نشاطه التجاري وطوارئه, ويحاول أن يتقيه بالتأمين ففي عقد التأمين يدفع جزءً يسيراً وفي نفسه أنه لا يقع له شيء من الحوادث ولكن ليطمئن على سلامة ماله من الهلاك أو دفع تحمل المال الكثير عن نفسه فيبيت مطمئناً مثل الذي يدفع للحارس ليطمئن على المال المحروس , فالمؤمن يدخل في العقد وهو يعلم أن ما دفعه لا يعود إليه وإنما دفعه لمن يرد عنه المصيبة حال وقوعها ويتحملها عنه.
وقد صدر قرار هيئة كبار العلماء في المملكة ومعهم الشيخ عبدالله بن حميد والشيخ ابن باز رحمهما الله بجواز التأمين التعاوني دون التجاري وإذا امعنا النظر نجد أنه لا فرق بين التعاوني والتجاري إلا في أن التجاري تقصد شركة التأمين منه الربح, وقصد الربح جائز شرعاً بل غالب عقود المعاوضات القصد منها الربح وهي جائزة اتفاقا, كما صدر حديثاً قرار من المجمع الفقهي الإسلامي بجواز التأمين الطبي.
وأخيراً هناك من العلماء المعاصرين من أجاز التأمين فممن علمت أنه يجيزه وهم أعضاء في هيئة كبار العلماء معالي الشيخ صالح بن حميد رئيس مجلس الشورى وفضيلة الشيخ عبدالله بن منيع عضو هيئة التمييز سابقاً وفضيلة الشيخ عبدالله البسام رئيس محكمة التمييز سابقاً رحمه الله ومعالي الشيخ عبدالله بن محمد بن إبراهيم وزير العدل ومعالي الشيخ عبدالله المطلق عضو هيئة كبار العلماء ومن العلماء الذين يجيزونه أيضا الشيخ صالح السدلان .
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
قاله الفقير إلى الله المنان
عبدالمحسن بن ناصر آل عبيكان
مواقع النشر (المفضلة)