صحيح أن أزمة "أركيجوس" مرت بسلام على وول ستريت، ولم تتحقق مخاوف البعض باندلاع عدوى مالية أوسع نطاقًا بسبب التشابكات المتعلقة بمعاملات الصندوق، لكنها في الحقيقة أثارت جدلًا وتدقيقًا حول نشاط مكاتب إدارة ثروات العائلات وانعكاسه على المستثمرين الأفراد.اعتبر الكثيرون هذه الحادثة، انعكاسًا لضعف إدارة المخاطر لدى البنوك الاستثمارية الكبيرة التي اشتهرت في الأساس بقراراتها الحكيمة وتقييمها العميق لفرص الاستثمار، خاصة بعدما تسبب هذا التراخي في خسائر لها بمليارات الدولارات.الأمر الثاني الذي يستدعي التدقيق والتساؤل، هو كيفية عمل هذه المكاتب بمنأى عن القيود التنظيمية، وهذا مردود عليه بأنها تدير أموالًا خاصة ولا تتشارك الأصول مع أحد، لكن مع تضخم أصولها بشكل هائل في السنوات الماضية، أصبحت تحركاتها تؤثر على الأسواق بشكل بالغ.مع فشل رهانات "بيل هوانغ" مؤسس ومدير "أركيجوس" بدأت البنوك الاستثمارية في تسييل حيازاته من الأسهم الممولة بالأساس عبر الاقتراض؛ بهدف تقليل الخسائر واسترداد ما يمكن رده من مستحقاتها. (اطلع على القصة من هنا)تدافعت البنوك لبيع أسهم مملوكة للمكتب بقيمة عشرات مليارات الدولارات بين عشية وضحاها، ما تسبب في ضغوط كبيرة على قيمة هذه الأسهم (8 شركات) والتي انخفضت بنسب متفاوتة تراوحت بين 2% و27% في جلسة واحدة، متسببة في خسائر إجمالية للقيمة السوقية بلغت 35 مليار دولار.بطبيعة الحال مثل هذه الاضطرابات تؤثر على استثمارات الغير وخاصة المستثمرين الأفراد الذين لا يملكون الخبرة الكافية للتعامل مع الأزمات، وهو ما يخلق تساؤلًا مهمًا حول كيفية تأثير وتأثر المستثمرين الهواة في الأسواق.
سمة قديمة- في الحقيقة مثل هذه الاضطرابات التي كثيرًا ما أهدرت مدخرات صغار المستثمرين، كانت سمة قديمة وأساسية لأسواق الأسهم، وهناك قصة شهيرة قبل نحو 300 عام تكشف عن تعرض العالم الشهير "إسحاق نيوتن" لخسارة فادحة نتيجة أمور مشابهة.- كان "نيوتن" رجلًا ثريًا وفقًا للمعايير المعاصرة، حيث جمع بحلول عام 1720 ما قيمته 19 ألف جنيه إسترليني من السندات الحكومية البريطانية، و10 آلاف سهم في شركة بحر الجنوب، والتي احتكرت التجارة البريطانية مع أمريكا الجنوبية، بمن في ذلك العبيد.- رغم تأثير الحرب مع إسبانيا على ثروات الشركات، لم يتوقف سهم شركة عن الارتفاع، لكن ربيع عام 1720، باع "نيوتن" البالغ من العمر 67 عامًا، حيازته من هذا السهم مقابل ربح جيد قدره 20 ألف جنيه إسترليني.- بعد ذلك، يقال إن الهوس سيطر عليه، ومع استمرار سهم الشركة في الارتفاع، عكس "نيوتن" مساره وضاعف رهانه عليه مرة أخرى، وحول سنداته الحكومية إلى المزيد من أسهم شركة بحر الجنوب.- لسوء الحظ، انفجرت الفقاعة في خريف عام 1720، مما أدى إلى القضاء على مدخرات "نيوتن"، ويقال إنه منع لاحقًا أي شخص من نطق كلمة "بحر الجنوب" في حضوره، واشتهر بأنه "الشخص الذي يمكنه حساب حركات الأجرام السماوية، ولكن ليس جنون الناس".- تظهر محنة العالم الكبير"نيوتن" أنه يمكن لأي شخص أن يسيطر عليه الهوس، وهو درس تاريخي مناسب في الوقت الذي تواصل فيه العديد من أسواق الأسهم حول العالم الآن، اختراق مستويات قياسية جديدة على الرغم من القلق الممتدد المتعلق بجائحة فيروس كورونا.
الماضي يعيد نفسه- لا شك أن مسار أسواق الأسهم العالمية كان مذهلًا منذ اضطرابات مارس 2020، حيث أضافت لقيمتها عشرات تريليونات الدولارات، ومع ذلك فإنه أداء يشبه هوس "نيوتن" قبل 300 عام بشركة بحر الجنوب حيث يتدافع الجميع للحاق بالركب في معاملات غلبت عليها سمة المضاربة.- كتب "جيريمي جرانثام"، المستثمر البريطاني الشهير، في وقت سابق من هذا العام في رسالة إلى مجموعة من المستثمرين: لقد نضجت السوق الصاعدة الممتدة منذ عام 2009 أخيرًا لتصبح فقاعة ملحمية كاملة".- أضاف "جرانثام" في رسالته: تتميز (الأسواق) بالمبالغة الشديدة في التقييم، والزيادات الهائلة في الأسعار، والمعاملات المحمومة، وسلوك المستثمر المضارب الهستيري، لذا أعتقد أن هذا الحدث سيتم تسجيله كواحد من أعظم فقاعات التاريخ المالي، إلى جانب فقاعات بحر الجنوب وعامي 1929 و2000.- تسلط قضية "أركجيوس" الضوء على المخاطر الكامنة في الأسواق اليوم، بعدما اندفعت البنوك الممولة للمكتب من أجل تصفية أصول بقيمة 50 مليار دولار، والمشكلة أن وراء هذا الفشل الاستثماري الذي انعكس على الآخرين، مستثمرًا له سوابق في الفشل.- أجبر هوانغ في عام 2012 على إغلاق صندوق التحوط الخاص به مع سداد غرامة بسبب اعتماد تداولاته على معلومات مسربة، ومع ذلك، ورغم أنه كان موضوعًا على القائمة السوداء للبنوك، فإنه تخطى كل العقبات وعاد بمدد من خطوط الائتمان الهائلة بفضل العمولات الضخمة التي يحققها للمصارف.
الهوس نهايته ألم- كان "هوانغ" مهوسًا مثل "نيوتن"، واستطاع مثله أن يبني ثروة شخصية تضخمت بشدة منذ انهيار سوق الأسهم الأمريكي في مارس عام 2020، وصلت إلى 20 مليار دولار في ذروتها، قبل أن تتبخر في غضون يومين بفعل انقلاب المصارف عليه.- الخطر لا ينبع فقط من تأثير مثل هكذا اضطرابات على السوق ككل، ولكن من إمكانية محاكاة تجربة "أركيجوس" مرارًا وتكرارًا ليس فقط من قبل المؤسسات الكبيرة التي يقودها الرضا الزائد عن النفس، وإنما أيضًا من قبل المستثمرين الأفراد الهواة، عبر السماح لهم بآليات مماثلة للتي كانت سببًا في إخفاق "هوانغ" الكبير.- في الولايات المتحدة، تسمح حسابات الوساطة للمالكين من المستثمرين الأفراد بالاعتماد على الرافعة المالية أو ديون الهامش في استثماراتهم، وهي نفس الآلية التي اعتمد عليها "هوانغ" في تمويل استثماراته، وبلغ حجم هذه الديون في ديسمبر الماضي 750 مليار دولار، وهو أعلى مستوى لها على الإطلاق.- تمامًا مثلما نمت ثروة "هوانغ" بفضل الهوس اللاحق على انهيار مارس 2020، تجاوز نمو هذه الديون 60% منذ ذلك الحين وخلال الأشهر اللاحقة، وهناك أدلة متزايدة على أن مستثمري التجزئة يجرون حاليًا رهانات محفوفة بالمخاطر، بحسب تحليل لبنك التسويات الدولية.- يقول التحليل أيضًا إن مستثمري التجزئة أقبلوا على الاستثمار في خيارات بيع و**** الأسهم، والتي تؤتي ثمارها فقط حال ارتفاع أو انخفاض سعر السهم متجاوزًا قيمة محددة مسبقًا، واعتمدوا في ذلك على الرافعة المالية أيضًا، ومع ذلك، خلص التحليل إلى أن هذا الاستثمار لم يكن مربحًا على المدى الطويل لصغار المستثمرين.- وفقًا لمسح أجرته شركة "تشارلز شواب"، فإن 15% من مستثمري التجزئة الحاليين في سوق الأسهم الأمريكي دخلوا السوق خلال العام الماضي فقط، وهي إشارة أخرى ترجح احتمالية وجود حالة من الهوس بين الناس تقود السوق إلى مواصلة الارتفاع.- الاندفاع لم يكن مشهدًا حصريًا في الولايات المتحدة، وتكرر في أماكن كثيرة، ربما بسبب الإغلاق والوضع الوبائي، كما أن منصات الاستثمار عبر الإنترنت مثل "روبن هوود" سهلت عليهم الأمر، ولم يقتصر الأمر على الأسهم، حيث تضخمت الأصول الرقمية مثل بيتكوين و"دوج كوين" بقوة، لنفس الأسباب على الأرجح.- كان من الأسهل تجاهل هوس مستثمري التجزئة لولا حقيقة أن العديد من أركان سوق الأسهم العالمية بلغت مستويات تتراوح بين القياسية والمرتفعة بقوة، وقد ثبت تاريخيًا أن الجمع بين نشوة المستثمرين والرافعة المالية والأسعار المرتفعة هو مزيج سام، بدءًا من فقاعة "نيوتن" مع سهم شركة بحر الجنوب وصولًا إلى كوارث سوق الأسهم الحديثة.المصادر: أرقام- فايننشال تايمز- بنك التسويات الدولية- سي إن بي سي- بلومبيرغ
مواقع النشر (المفضلة)