جاء اختيار الحد عوضا عن وقف أو منع التحويلات المالية للعمالة الوافدة إلى الخارج، من النمو المطرد الذي تتسم به طوال أكثر من عقدين من الزمن، لأسباب عديدة، أولها أن الاقتصاد السعودي اقتصاد يقوم على مبادئ السوق الحرة، التي تقتضي حرية انتقال رؤوس الأموال دخولا وخروجا وفق الأنظمة الدولية المتعارف عليها، وكونه يحظى بروابط اقتصادية وتجارية متينة جدا مع مكونات الاقتصاد العالمي، ويمثل ثقلا دوليا لا يضاهيه اقتصاد آخر في وزنه على مستوى سوق الطاقة العالمية، وثاني الأسباب أنه الاقتصاد الأكبر على مستوى منطقة الشرق الأوسط، وأحد أكبر 20 اقتصادا حول العالم، وما يقتضيه كل ذلك من استمرار الحاجة إلى الاعتماد على خدمات العمالة من خارج حدوده.تأتي أهمية اتخاذ التدابير والإجراءات اللازمة للحد من تنامي ظاهرة التسرب المالي لتلك التحويلات، قياسا على الحجم الكبير الذي ما زالت عليه طوال الفترة الزمنية الطويلة الماضية، ونظرا لعودتها إلى النمو مجددا خلال العامين الأخيرين، ووصول نموها السنوي خلال الخمسة أشهر الأولى من العام الجاري إلى 14.0 في المائة "63.2 مليار ريال"، مقارنة بحجمها خلال الفترة نفسها من العام الماضي "55.5 مليار ريال"، وهو النمو السنوي الأعلى منذ أيار (مايو) 2013، وارتباط ذلك بجهود كثيفة للأجهزة الحكومية بالتعاون مع وزارة الموارد البشرية الهادفة في مجموعها إلى خفض معدل البطالة، ورفع معدل توطين الوظائف في سوق العمل المحلية، والمحافظة على نجاحها المتحقق خلال الفترة الزمنية الماضية، الذي أثمر عن خفضه بنهاية الربع الأول من العام الجاري إلى 11.7 في المائة "المعدل الأدنى خلال خمسة أعوام مضت".الحديث هنا ليس عن ظاهرة وليدة الفترة الراهنة، بل إنه يتركز على ظاهرة تمتد جذورها في عمر الاقتصاد الوطني لأكثر من ثلاثة عقود زمنية مضت.تبدأ أول السياسات والإجراءات الفاعلة للحد من حجم تلك التحويلات المالية الكبيرة للخارج، من العمل المتكامل والدؤوب والأسرع على زيادة معدلات التوطين في سوق العمل المحلية، وإحلال العمالة الوطنية في كثير من الوظائف الملائمة والمجدية في مختلف نشاطات الاقتصاد الوطني، وأن تتزامن مع العمل بسياسات تستهدف خفض الاعتماد الكبير من قبل منشآت القطاع الخاص على العمالة الوافدة، الذي يصل في عديد من النشاطات إلى ما يشبه الإدمان شبه الكامل على تلك العمالة، وكلا الأمرين يمكن لهما أن يتحقق بإقرار سياسات توطين أكثر قوة وفاعلية، لعل من أهمها ما سبق التأكيد عليه في مقالات سابقة أن يتم إقرار برنامج لتوطين الوظائف القيادية والتنفيذية، كونه ينصب بالتركيز على دائرة اتخاذ القرار في منشآت القطاع الخاص، إضافة إلى التوسع الأسرع في تنفيذ برامج التوطين الجيدة المعمول بها الآن، والمزمع إقرارها من قبل وزارة الموارد البشرية خلال الفترة الزمنية القريبة جدا.والتأكيد مجددا أن تتبنى المؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية إلزام جميع المنشآت وأصحاب الأعمال الخاضعين لنظامها، بدفع 9 في المائة من أجور العمالة الوافدة لديها، ودون تحديد سقف أعلى لنسبة الاستقطاع واجبة الدفع شهريا، وإضافتها لحساب المعاشات لدى المؤسسة، والتأكيد هنا على عدم الاستقطاع بأي نسبة كانت من الأجور التي تستلمها العمالة الوافدة، فيظل الالتزام قائما فقط على المنشأة. إضافة إلى إلزام تلك المنشآت وأصحاب الأعمال بدفع 1 في المائة من الأجور المدفوعة للعمالة الوافدة لديها، لتغذية حساب "ساند" لدى المؤسسة، واتباع الآلية نفسها في الإجراء السابق. حيث سيسهم هذا الإجراء في دفع المنشآت وأصحاب الأعمال بدرجة أكبر نحو زيادة معدلات التوطين لديها، خاصة بعد فقدانها التام لأحد أسباب تفضيلها للعمالة الوافدة على العمالة المواطنة "عدم تحمل تكاليف دفع اشتراكات التقاعد و"ساند"، فيما تدفع فقط 2 في المائة "فرع الأخطار المهنية".إنها السياسات والإجراءات التي ستؤدي إلى تحقق كثير من النتائج الإيجابية للاقتصاد الوطني والمجتمع على حد سواء، يأتي في مقدمتها رفع معدل التوطين وخفض معدل البطالة، وزيادة تحسن مستويات الدخل بين المواطنين والمواطنات، التي ستعزز بدورها من الطلب الاستهلاكي محليا، وتسهم في زيادة معدلات الادخار الوطني. ثانيا: المساهمة في خفض الاعتماد على اليد العاملة الوافدة، الذي سيؤدي بدوره إلى الحد من حجم التحويلات المالية الكبيرة إلى الخارج، والمحافظة على سيولة الاقتصاد الوطني من التسرب إلى خارج حدوده. ثالثا: سيؤدي تحقق الهدفين السابقين إلى زيادة فرص النمو الاقتصادي واستدامته، والمساهمة بصورة أكبر في تحقيق مستهدفات الرؤية الطموحة للمملكة 2030 بوتيرة أسرع وأكبر، وغيرها من الأهداف التنموية العملاقة التي بتحققها - بمشيئة الله وتوفيقه -، سيكون اقتصادنا الوطني أكثر متانة وأقوى استقرارا، وللمرء أن يتخيل كم فاتنا اقتصاديا وتنمويا برحيل 2.1 تريليون ريال خلال الفترة 2001 - 2020 إلى خارج الحدود؟ وماذا يجب علينا القيام به الآن لعدم تكرار تلك التجربة ذات الآثار العكسية على الاقتصاد الوطني؟.
مواقع النشر (المفضلة)