عندما طفت أزمة صندوق"أركيجوس" الذي يقوده "بيل هوانغ" في مارس الماضي، كان المحللون ووسائل الإعلام وأطراف أخرى على أهبة الاستعداد والترقب لما قد ينجم عن هذه الضربة المدمرة لاستثمارات بقيمة عشرات المليارات.بين عشية وضحاها قررت البنوك الممولة لمغامرات المستثمر المعروف بـ"شبل النمر" في وول ستريت، بيع 30 مليار دولار من الأسهم التي اشترتها له عن طريقة خاصية "الهامش"، بعد فشل استثماراته المدعومة بمستوى عال للغاية من الرافعة المالية في تحقيق الأداء المرجو.في جلسة واحدة، فقدت مجموعة محدودة من الأسهم ما قدره 35 مليار دولار من القيمة السوقية، وتراجعت أسعارها بنسب متفاوتة بين 2% و27%، وتسببت في خسائر بالمليارات لعدد من البنوك ذات السمعة العالمية والمعروفة بحسن تعاملها مع المخاطر.المشكلة في مهدها أثارت مخاوف من انتشار عدوى واسعة في الأسواق تقود إلى انهيار مالي واسع على غرار ما حدث في أواخر التسعينيات بسبب صندوق التحوط "LTCM"، وفي أضعف السيناريوهات، فإنه سيقود لسلسلة من عمليات التدقيق وانتفاض المنظمين.جاءت الأخبار اللاحقة لتثير المزيد من الشكوك حول تأثير هذه الحركة المريبة في السوق وملابساتها، فمثلًا كشفت التقارير الإعلامية أن مصرف "مورجان ستانلي" باع 5 مليارات دولار من أسهم "أركيجوس" التي تشمل رهاناته الفاشلة قبل ليلة واحدة من عملية البيع الواسعة التي شملت بنوكًا عدة.شعر بعض عملاء المصرف بأنهم تعرضوا للخيانة لأنهم لم يكونوا جزءًا من الحدث، وتساءل آخر كيف لبنك واحد دون البقية أن يدرك حجم الخطر ويتحرك سريعًا في وقت قياسي، والأهم، هل كان من الإنصاف التخلص من هذه الأسهم دفعة واحدة بهذا الشكل بما يؤثر على استثمارات الآخرين، ألا يعد ذلك تلاعبًا نوعًا ما؟من عبث بالسوق؟- تكشف الحادثة عن ضعف إدارة المخاطر بين مجموعة من البنوك الاستثمارية التي يُفترض أنها حكيمة، والتي تتمتع برافعة مالية لا مثيل لها للمراهنات شديدة المضاربة، لكن في الحقيقة "بيل هوانج" لم يتسبب في هذا الضرر من خلال صندوق تحوط خاص به.- بدلاً من ذلك، ينبع هذا مما يسمى بـ"مكتب العائلة" والذي يدير مجموعة هائلة من حسابات الثروة الشخصية، ففي عصر أصبحت فيه الثروة أكثر تركيزًا من أي وقت مضى، غالبًا ما تتم إدارة هذه الثروات الخاصة الضخمة في مكاتب العائلات تلك.- لقد شهدت هذه المكاتب عصرًا ذهبيًا حققت خلاله انتشارًا مذهلًا، وفي تقرير صدر قبل عام، أشارت كلية إدارة الأعمال "إنسياد" إلى أن عدد مكاتب العائلات نما بنسبة 38% بين عامي 2017 و2019، ليصل إلى أكثر من 7000 مكتب.- قدر التقرير أن الأصول الخاضعة للإدارة بلغت نحو 5.9 تريليون دولار في عام 2019، مقارنة بـ3.6 تريليون دولار في صناعة صناديق التحوط العالمية، وتقول "إنسياد" إن مكاتب العائلات "تنمو بوتيرة أسرع من الثروة العالمية، وهي شائعة بشكل متزايد في جميع المجالات".- عادةً ما ينبثق عن كل مكتب عائلي مكتبان أو ثلاثة مكاتب أخرى، غالبًا في مراكز مثل سنغافورة ولوكسمبورغ ولندن، ويتقاضى الرؤساء التنفيذيون لها أجرًا في حدود 335 ألف دولار سنويًا، وفقًا لتقرير "إنسياد".اللعب بلا قواعد- رغم حجم هذه البيوت الاستثمارية، تميل المكاتب العائلية إلى العمل بعيدا عن أعين الجهات التنظيمية، ويساعدها على ذلك أنها لا تدير أموالًا للآخرين، وهذا يعني أنها في كثير من الأحيان لا تخضع لسؤال من أي شخص سوى الأسرة المعنية، باستثناء القواعد القياسية لمكافحة غسيل الأموال والعقوبات.- يقول "أنجيلو روبلز"، المؤسس والرئيس التنفيذي لجمعية مكتب العائلة: إذا كانت أموالهم يمكنهم فعل ما يريدون، تمامًا مثل الشخص العادي، لماذا يجب أن يفصحوا؟ لكن إذا أخذوا أي رأس مال خارجي، فعليهم اتباع معايير معينة. تختلف المعايير وفقا لاستراتيجية كل مكتب كما أن الخلاف حول ماهية وممارساتكل مكتب يمثل مشكلة رئيسية أيضًا.- في الولايات المتحدة، شدد قانون "دود فرانك" بعد الأزمة المالية، بشكل كبير، اللوائح الخاصة بالصناعة المالية، لكن لجنة الأوراق المالية والبورصات أعفت عمليا المكاتب العائلية من كتيب القواعد الأكثر صرامة بشأن التسجيل والإفصاح، وترك الأمر لتقدير المكاتب الخاص.- قال مفوض لجنة تداول السلع الآجلة الأمريكية، إن الإعفاءات الأخرى فتحت الباب أمام "المجرمين المدانين والمتلاعبين بالسوق وغيرهم من الأوغاد في السوق المالية" للعمل بحرية تحت غطاء مكاتب العائلات.- على الرغم من أن المكاتب العائلية قد لا يكون لديها مستثمرون خارجيون لإلحاق الأذى بهم، فيمكنها فعل أشياء سيئة، ولا يزال بإمكانهم الإضرار بالسوق ككل، و"بيل هوانغ" خير مثال على شخص يستغل إعفاء مكتب العائلة ويخلق مخاطر منهجية.واقع جديد مختلف الملامح- سيصبح الأمر أكثر إحكامًا الآن للجميع وسيكون هناك مزيد من التدقيق في الإقراض بالهامش، والخدمات الرئيسية، والنظر في ما إذا كانت الأسواق منظمة، وأشياء أخرى ربما لم يفكروا فيها حتى الآن، بما يقود العصر الذهبي لمكاتب العائلات إلى نهايته أو على الأقل إلى سقف أقصر من الحرية.- الأمر أثار بالفعل قلق المنظمين، وقالت لجنة تداول السلع الآجلة الأمريكية إن الإشراف على المكاتب العائلية "يجب تعزيزه"، مشيرة إلى أنها "يمكن أن تعيث فسادًا في الأسواق المالية". وداخل هذا العالم السري يدرك الجميع أن سقوط "هوانج" يعني أن أوقات التواري أوشكت على الانتهاء.- قد تثبت أزمة "أركيجوس" أنها انفجار منعزل لا يخلق موجات ارتدادية أوسع عبر النظام المالي، فحتى الآن، لم تؤد الخسائر إلى تأثير الدومينو المزعزع للاستقرار من خلال الأضرار التي لحقت بالبنوك والمستثمرين الآخرين، لكن تظل الحقيقة أنها كانت قادرة على فعل هذا وخلق اضطراب واسع النطاق.- لذا من غير المتوقع أن يمر هذا الحادث مرور الكرام على المنظمين أو البنوك نفسها وطريقة تعاملها مع المخاطر. قالت وكالة "فيتش" للتصنيف الائتماني أن الخسائر التي سجلتها بعض البنوك اليابانية بسبب الأزمة تشكل اختبارًا لمدى التزام القطاع المصرفي في البلاد بضوابط المخاطرة- تتوقع الوكالة أن تواجه هذه المؤسسات المالية مخاطر مالية وأخرى على صعيد السمعة، علاوة على التدقيق التنظيمي بشأن احتمال حدوث تقصير أو ضعف في الحوكمة. هذه الضغوط تساهم في إعادة تشكيل الوعي الجمعي للأسواق (يشمل ذلك المستثمرين والمنظمين) وسيجعل كل الأطراف أكثر حذرا وتنبهًا لهذه المكاتب وتأثيرها.- استجابة المنظمين (وربما تتدخل جهات التحقيق الجنائية) ستكون أكثر حدة وغضبًا إذا ما صح وجود نوع من التلاعب أو الاتفاقات المسبقة، حيث أشارت بعض التقارير بالفعل إلى اجتماع سابق بين "هوانغ" والمصارف لتسوية الأمر قبل ليلة من عمليات البيع.- كشفت تقارير أخرى، عن تجاهل مصرف "كريدي سويس" إشارات تحذير سبقت أزمة انهيار شركة التمويل "جرينسيل كابيتال"، وأخرى بشأن إخفاق رهانات "أركيجوس" الذي كبد البنك خسائر بنحو 4.7 مليار دولار. هذه المعلومات إن صدقت فربما تجعل رد فعل السلطات أكثر حدة وغضبًا في وجه مكاتب العائلات والبنوك على حد سواء.المصادر: أرقام- فايننشال تايمز- سي إن بي سي- وول ستريت جورنال- بلومبيرغ
مواقع النشر (المفضلة)