إنه العام 1928، رائحة الخوف من تعاظم قوة الألمان تفوح من كل مكان في فرنسا، في تلك اللحظة قرر الفرنسيون المضي قدمًا في تنفيذ خطة وزير الحرب الفرنسي "أندريه ماجينو" القائمة على بناء خط دفاعي حصين على طول الحدود الشمالية الشرقية لفرنسا في مواجهة ألمانيا، من أجل منع الجيوش الألمانية من التقدم في اتجاه باريس.
باستخدام 1.54 مليون متر مكعب من الخرسانة و150 ألف طن من الفولاذ انتهى الفرنسيون في عام 1938 من تشييد "خط ماجينو" الذي بدا كسد منيع في وجه أي محاولة لاختراقه من جانب الألمان. ولكن بينما تجلس الجيوش الفرنسية وراء "خط ماجينو" متحصنة، قرر "هتلر" تركهم هناك، وأمر الحيوش الألمانية بالالتفاف حول الخط من خلال احتلال بلجيكا ثم الدخول منها إلى قلب فرنسا.في خلال 46 يوما فقط استسلمت فرنسا بعد أن نجحت جيوش الرايخ في احتلال الأراضي الفرنسية بأقل خسائر ممكنة، ليصبح "خط ماجينو" فخر التحصينات الفرنسية ودرة تاج خططها العسكرية ومعجزتها الهندسية،عديم الجدوى، حيث إنه لم يوفر للفرنسيين أكثر من شعور زائف بالأمان. انتظروا الغزو من الحدود الألمانية، فجاءهم من عبر حدود بلجيكا الحيادية التي اجتاحها الألمان.الطريقة التي خدع بها الألمان خصومهم الفرنسيين، هي ذات الطريقة التي تستخدمها إدارات بعض الشركات المدرجة في سوق الأسهم في التلاعب بجمهور المستثمرين. في السوق تجد الهيئات التنظيمية ومن ورائها شركات المراجعة والمحللين والمستثمرين يضعون جل تركيزهم على التقارير المالية للشركات، للتأكد من خلوها من أي خداع أو تلاعب، ويطمئنون حين يلاحظون اتباع الشركة للممارسات المحاسبية المتعارف عليها.ولكن بينما تنتظرهم أنت من الشرق، تأتيك الضربة من الغرب! ما لا يدركه أكثر مستثمري سوق الأسهم هذه الأيام، هو أن الشركات خلال السنوات الأخيرة أصبحت أقل إقدامًا على التلاعب بتقاريرها المالية لأسباب كثيرة من بينها تجنب خطر انكشاف أمرها خلال عمليات التدقيق التي تخضع لها تلك البيانات، وبدلًا من ذلك أصبحت الإدارات أكثر ميلًا للتلاعب بالعمليات ذاتها للوصول إلى ما ترغبه من نتائج، وهي عملية وإن كانت تضر بمصالح المساهمين، إلا أنها تتم وفق القواعد القانونية.باعترافاتهم!استطلعت دراسة نشرتها "مجلة المحاسبة والاقتصاد" آراء أكثر من 400 من كبار المسؤولين التنفيذيين حول كيفية إدارة شركاتهم للأرباح والإيرادات المعلنة، في إطار تلك الدراسة طلب الباحثون من المديرين التنفيذيين تخيل سيناريو تكون فيه شركاتهم في طريقها لتحقيق أرباح أقل من الأرباح المستهدفة في نهاية الربع المالي، وسألوهم السؤال التالي: دون انتهاك أي من مبادئ المحاسبة المقبولة عمومًا (GAAP) كيف يمكن أن تحققوا المستوى المستهدف من الأرباح؟كشفت الدراسة أن المديرين التنفيذيين يميلون للتلاعب بالنتائج ليس من خلال تزييف البيانات المالية، وإنما من خلال التلاعب بالعمليات التشغيلية للشركة، على سبيل المثال، قال ما يقرب من 80% من المديرين التنفيذيين المستطلعة آراؤهم إنهم سيخفضون النفقات التقديرية (مثل نفقات البحث والتطوير والتسويق والصيانة والتوظيف وتدريب الموظفين) من أجل أن يتجنبوا التخلف عن تحقيق الأرباح المستهدفة بنهاية الربع.في الوقت نفسه، أشار ما يقرب من 55% منهم إلى أنهم سيؤجلون إطلاق أي مشاريع جديدة حتى لو تضمّن الأمر تضحية ببعض المال، فيما قال 40% منهم إنهم إذا كانوا معرضين لخطر التخلف عن تحقيق الأرباح المستهدفة فإنهم سيقدمون حوافز للعملاء من أجل **** المزيد في ذلك الربع.الأمر الأكثر إثارة للاهتمام هو أن بعض المديرين يحاولون الحصول على الأرقام والنتائج التي يريدونها عبر التلاعب بالإنتاج. على سبيل المثال، إذا كان لدى الشركة سعة إنتاجية فائضة، فيمكن للمديرين القيام بزيادة الإنتاج مما يسمح لهم بتوزيع تكاليف التصنيع الثابتة على المزيد من الوحدات المنتجة. والنتيجة طبعًا هي انخفاض تكلفة المنتج وبالتالي انخفاض تكاليف المبيعات وزيادة الأرباح.لكن على الجانب الآخر، هذه الممارسة ستؤدي أيضًا إلى ارتفاع مخزونات الشركة من السلع تامة الصنع غير المباعة، مما يخلق عبئًا ثقيلًا على الشركة التي ستدفع ثمن هذا التحسن قصير الأجل الذي شهدته الأرباح من مستقبلها، كما يحدث مثلًا في صناعة السيارات، فعندما تظل أعداد كبيرة غير مباعة من السيارات في مخازن الشركة لفترات طويلة، تتعرض تلك السيارات لأنواع مختلفة من التلفيات مثل تشقق الزجاج الأمامي والإطارات وتلف المسّاحات وتآكل البطاريات.في سيناريو مثل هذا سيتعين على شركة السيارت زيادة إنفاقها التسويقي وخفض الأسعار وتقديم تسهيلات تمويلية وائتمانية كبيرة لجذب العملاء من أجل التخلص من الفائض الموجود في المخزون، والذي لم يوجد في المقام الأول إلا بسبب مناورة الإدارة الراغبة في عدم التخلف عن الأرباح المستهدفة في المدى القصير بأي شكل، حتى لو كان الثمن هو تأثر الشركة سلبيًا على المدى الطويل.قانوني 100% .. تنظر إليه ولا تراه!إن التلاعب بالأنشطة الحقيقية سواء من خلال التلاعب بالمبيعات أو زيادة الإنتاج أو خفض النفقات التقديرية قد يؤدي إلى خفض قيمة الشركة على المدى الطويل، لأن الإجراءات المتخذة في الفترة الحالية من أجل زيادة الأرباح أو الحفاظ على استقرار سعر السهم عند مستوى معين يمكن أن يكون لها تأثير سلبي على التدفقات النقدية في المستقبل.أخطر ما ينطوي عليه هذا النوع من التلاعب هو أنه لا يلفت انتباه لا الجهات التنظيمية ولا شركات المراجعة ولا المستثمرين وذلك ببساطة لأنه يتم بشكل قانوني تمامًا وفي ضوء قواعد اللعبة ودون انتهاك أي من مبادئ المحاسبة المعمول بها. ورغم كونه "قانونيًا" تمامًا إلا أن التلاعب بالأنشطة الحقيقية للشركة وعملياتها قد يكون أكثر ضرارًا بها ومساهميها من الاحتيال المالي الصريح والتلاعب بالنتائج المالية ذاتها.الطريف هو أنه بينما ينظر المستثمر ومن قبله المراجع إلى التقارير المالية بمزيج من الشك والتحفز بحثًا عن أي إشارات لمخالفات أو تلاعب، لا يدرك هذا ولا ذاك أن التلاعب حدث أصلًا في مرحلة سابقة على مرحلة إعداد البيانات المالية.للأسف رغم انتشار هذا النوع من التلاعب في سوق الأسهم من قبل إدارات بعض الشركات المدرجة، إلا أنه يصعب اكتشافه باللوائح وقواعد التدقيق. وهنا سؤال يطرح نفسه: ما الذي قد يمنع المدير من التورط في هذا النوع من التلاعب؟ إذا لم يكن لديه ضمير، لا شيء حقيقة يمكن أن يوقفه أو يردعه.المصادر: أرقام – هافارد بيزنس ريفيو-Journal of Accounting and Economics دراسة: The impact of using real activities manipulation through cash flow from operation for future performance
مواقع النشر (المفضلة)