التعليم هو أعلى استثمار تقوم به الأمم من حيث العائد، فهو أساس بناء المجتمعات والمصنع الحقيقي للتنمية الإنسانية، يدخل في بناء كافة جوانب حياة الأفراد والمجتمعات ويحمي المجتمعات من الدخول في غياهب الجهل والظلام، إن تكاليف الاستثمار في التعليم لا تقارن بتكاليف الكوارث الناتجة عن إهماله، فالعلم يبني بيوتاً لا عماد لها والجهل يهدم بيت العزّ والكرم.بُنيت الحضارات قديماً وحديثاً على التعليم، وليس خفياً على أحد أن التقدم الذي تعيشه دولاً صغيرة محدودة الموارد الطبيعية ككوريا الجنوبية وفنلندا وسنغافورا على سبيل المثال كان نتيجة للاستثمار في التعليم، لذلك أصبح تطوير التعليم في بلادنا ضرورة استراتيجية لمواجهة التحديات الناتجة عن التغير في بنية الاقتصاد العالمي ومجابهة الغزو الثقافي للعولمة والمنافسة الشديدة بين الدول في تحقيق الرفاهية لشعوبها.إن السعودية من أكثر الدول في العالم التي يحظى فيها التعليم بنصيب كبير من الإنفاق بالنسبة إلى ميزانيتها وقد وصلت هذه النسبة في عام 2020 الى 17%، في حين يبلغ متوسط الإنفاق على التعليم عالمياً 10% من الإنفاق الحكومي من الموازنة، كما أن التعليم له أهمية كبيرة لدى المواطن السعودي؛ حيث يبلغ حجم إنفاق الأسر السعودية 18 مليار ريال سنوياً على التعليم إلا أن جودة مخرجات التعليم لم تكن على قدر الطموح ومن مؤشرات ذلك ارتفاع معدلات البطالة وانخفاض جودة التعليم، فبحسب المنتدى الاقتصادي العالمي، حصلت السعودية في مؤشر جودة التعليم العالمي على 4.3 من 10 وهذا أقل من متوسط دول الخليج البالغ 5.7.ولهذا يعتبر قطاع التعليم من أهم القطاعات التي تركز عليها "رؤية السعودية 2030" وحاز هذا القطاع على اهتمام خاص نظرًا لأن الأنظمة والأساليب والبرامج التعليمية التي كانت مستخدمة داخل السعودية طوال العقود السابقة لم تساهم في تطوير هذا القطاع بالقدر الكافي رغم الجهود المبذولة. هذا ويتوقع أن يرتفع حجم ميزانية وزارة التعليم في السعودية في عام 2030، إلى أكثر من 200 مليار ريال.هنا وفى إطار حديثنا حول جدوى وجود هيئة مستقلة للتدريب والتعليم الأهلي والخاص في السعودية يستدعى الأمر منا أولاً الوقوف على حجم هذا القطاع وأهميته في دعم قطاع التعليم ومعرفة أهم التحديات التي تواجهه؛ ومن ثم التوصل إلى نتيجة ما إذا كانت الهيئة السعودية للتدريب والتعليم الأهلي والخاص ضرورة أم ترف.يشكل قطاع التعليم الأهلي حالياً ما يمثل 13% من حجم المقاعد الدراسية في السعودية بحسب بيانات وزارة التعليم 2020، ومتوقع زيادته إلى 25% بحلول عام 2030 ، ووفقاً للإحصائيات فقد وصل عدد المدارس والمعاهد الأهلية في السعودية إلى ما يزيد عن 6000 معهد ومدرسة أهلية، ويستوعب قطاع التعليم الأهلي بشقيه العام والعالمي ما يقرب من 800 ألف طالب وطالبة، و 88979 معلم ومعلمة وعدد 9758 إداري وإدارية، ومن تلك الأرقام نستطيع أن نلمس أهمية التعليم الأهلي وحجمه الضخم والفرص التشغيلية الكبيرة التي يوفرها باستيعابه ما يقرب من140 ألف وظيفة وتوطين 3% من إجمالي القطاعات، و7% من توطين النساء ليصبح أعلى القطاعات توطيناً، ناهيك عن الخدمات التعليمية الجليلة التي يقدمها هذا القطاع للطلاب والطالبات والمجتمع على حد سواء، حيث يبلغ حجم الإنفاق الحكومي على التعليم في العام 143 مليار ريال سعودي، بمتوسط تكلفة 30 ألف ريال لكل طالب في المدارس الحكومية، بينما يوفر قطاع التعليم الأهلي على الخزينة 30 مليار ريال سعودي كتكلفة بديلة يوفرها حال التحاق مليون طالب وطالبة بالتعليم الأهلي.وخلال جائحة كوفيد-19 عانى التعليم الأهلي من أزمات طاحنة لعل أبرزها أزمة السيولة وانخفاض المداخيل المالية للمدارس الأهلية نتيجة توقف تحصيل الرسوم الدراسية للعام الدراسي السابق وتقديم خصومات وصلت الى 50% للعام الدراسي، كما عزف أولياء الأمور عن تسجيل أبنائهم بمدارس الطفولة المبكرة بنسبة تزيد عن 75%، تزامن مع ذلك الالتزامات المالية الكبيرة التي تدفعها المدارس شهرياً وتأخر عودة الوافدين، كذلك عدم الاستفادة من برامج الدعم الحكومية كبرنامج "ساند" ومبادرة " هدف". فلم يستفد قطاع التعليم الأهلي إلا من مبادرة تأجيل القروض التي قامت بها وزارة المالية.ولعل من أبرز القرارات التي كانت تحتاج إلى مزيد من الدراسة والشراكة مع المستثمرين في قطاع التعليم الأهلي هو قرار توطين المهن التعليمية بالمدارس الأهلية والذي تم تطبيقه في 1 سبتمبر 2021 بحد أدنى 5000 ريال سعودي لحملة البكالوريوس ولا يتم احتساب الرواتب الأقل من ذلك في نسبة التوطين؛ الأمر الذي يفرض مزيداً من الأعباء المالية على المدارس الأهلية في ظل الأزمة المالية الطاحنة التي تعاني منها حالياً نتيجة جائحة كوفيد -19 ، ناهيك عن فرض التوظيف لكل متقدم حتى لو كان مؤهله غير مطابق، فهذه القرارات تحتاج الى مزيداً من الدراسة والتشاركية مع ممثلي القطاع، فضلاً عن الانسحابات المفاجئة لـ 300 ألف طالب وطالبة من المدارس بعد الإعلان عن استمرار الدراسة (عن بُعد) للمرحلة الابتدائية وتطبيق الحضور المتزامن للمرحلة المتوسطة والثانوية، الأمر الذي أدى إلى حالة من الارتباك الشديد في المدارس الأهلية مع بدء العام الجديد، مما أضاع عليها فرص التخطيط والاستعداد الجيد.إن لوجود هيئة سعودية للتدريب والتعليم الأهلي و الخاص، سبب هام وهو الحجم الكبير لهذا القطاع وتوقعات النمو الكبيرة له فالاتجاهات الحديثة تتجه إلى تحقيق الشراكة بين القطاع العام والخاص في الاستثمار خاصة مع بيئة استثمارية هادئة وقطاع استثماري واعد كالتدريب والتعليم الأهلي والخاص، وتشير الإحصائيات إلى ارتفاع معدلات الإنفاق في القطاع التعليمي الخاص بنسبة % 20 خلال ال 10 سنوات القادمة، وهذا يوضح اهتمام للأسر في السعودية بجودة التعليم ومن الممكن زيادة هذه النسبة في حال كان هناك مزيداً من الخيارات في المدارس الأهلية والعالمية ، فالأسر السعودية لا تدخر جهداً في الإنفاق على التعليم الخاص ولكن الأمر يحتاج إلى مزيد من الترتيب المؤسسي ووضوح الرؤية للمدارس الأهلية والمستثمرين الجدد لكى يكون التعليم الأهلي والعالمي من الأنشطة الجاذبة والرابحة لهؤلاء المستثمرين فتزيد أعداد المدارس الأهلية وكذلك الجودة في مخرجات العملية التعليمية.ومن وجهة نظري بات من الضروري، بعد استعراض الوضع الحالي للتعليم الأهلي وأهم التحديات التي تواجهه في السعودية، وجود هيئة مستقلة تطلع على القرارات وتقوم بدراستها من كافة أبعادها والاتفاق على آليات وتوقيت تنفيذها مع أصحاب المصلحة، وتضطلع بكل ما يخص هذا القطاع وتضع الخطط الاستراتيجية لتطويره وتنميته بالتعاون والتنسيق مع بقية الجهات ذات العلاقة، فالسبب الأهم لمعاناة هذا القطاع هو تعدد الجهات التي تشرف عليه وتنظمه بدون رؤية موحدة تجعله جاذباً للاستثمار.ونؤكد على أن وجود الهيئة السعودية للتدريب والتعليم الأهلي والخاص لم يعد ترفاً بل هي حاجة ماسة تقتضيها وتفرضها الظروف الحالية والتطلعات المستقبلية المنتظرة من القطاع، كما من المتوقع أيضا أن يستمر نمو الطلب على التعليم بدعم من النمو السكاني، فهو يحتاج مساعدة وعون ليبقى رافداً قوياً في مسيرة التدريب والتعليم الأهلي والخاص بالسعودية.
مواقع النشر (المفضلة)