رغم فداحة الجائحة وتداعياتها المؤلمة على العالم أجمع، يُنظر إلى الأزمة باعتبارها سببًا في تأجيج واحدة من أعمق عيوب النظام الرأسمالي، وهي عدم المساواة والتفاوت في الثروة، حيث نمت أصول الأشخاص الأكثر ثراءً بشدة، في حين تآكلت القدرة الإنفاقية للقاعدة الجماهيرية الأوسع.انكمش حجم الطبقة المتوسطة العالمية، خلال عام 2020، للمرة الأولى منذ عقود بسبب التداعيات الاقتصادية الناجمة عن وباء فيروس كورونا، وأشار نحو ثلثي الأسر في الأسواق النامية إلى تراجع دخلهم خلال الأزمة.في الوقت نفسه، تعرض الأثرياء لضغوط شديدة مع ارتباك سلاسل الإنتاج وانهيارات الأسهم، لكن هذا الاتجاه لم يدم طويلًا، وتعافت الأسواق سريعًا ووجدت الشركات سبيلها لاستئناف العمل كالمعتاد، وكانت النتيجة زيادة في ثروة فئة الـ0.1% الأكثر ثراءً، وكأن أزمة لم تكن.الآن، وبعد اكتشاف مخرج للأزمة التي حلت على البشرية، والذي تمثله لقاحات "كوفيد 19"، يبدو أن العالم يتجه نحو المزيد والتفاوت في الاستفادة من الثروات، وذلك بفعل التوزيع غير العادل لهذه اللقاحات، والذي يعزز الأنشطة الاقتصادية في أماكن دون أخرى.في سبعينيات القرن الماضي، بدا أن النفط هو المُدخل الحيوي الرئيسي والمحرك لثروات الاقتصاد العالمي، ويخضع لسيطرة قوى دولية محددة، واليوم تعتمد الآفاق الاقتصادية بالمثل على اللقاحات كمدخل آخر بالغ الأهمية، والذي ينتج بشكل محدود أيضًا.تشجع عمليات التطعيم الموسعة الانتعاش الاقتصادي في أمريكا، وقادت التضخم إلى أعلى مستوياته منذ عام 1992، وفي غضون ذلك، تعاني أماكن أخرى من العالم نكسات صحية واقتصادية لتأخرها في الحصول على اللقاحات.قصتان للتعافي- من المتوقع أن ينمو الاقتصاد العالمي بشكل سريع هذا العام بنسبة 5.6%، وفقًا لأحدث تقديرات البنك الدولي، لكنها "قصة مسارين للتعافي"، كما يقول "أيهان كوس" الخبير بالبنك.- إن الدول الغنية، التي قام العديد منها بتطعيم شعوبها بسرعة نسبية، تتحلى بالتفاؤل والأمل وغيرها من المشاعر الإيجابية، لكن في المناطق التي تأخر فيها التطعيم، لا سيما في أفقر البلدان، يبدو أن بعض الاقتصادات تسير في الاتجاه الآخر مباشرة.- من بين الاقتصادات الكبيرة التي أبرزها البنك الدولي، من المتوقع أن تنمو البلدان العشرة التي تتمتع بأعلى معدلات التطعيم بنسبة 5.5% هذا العام في المتوسط، وفي المقابل ستنمو العشرة الأقل بنسبة 2.5% فقط.- بفضل وتيرة التطعيم في أمريكا (بالإضافة إلى حجم التحفيز الضخم)، تم تعديل نموها المتوقع لعام 2021 صعودًا من 3.5% إلى 6.8% منذ أن أصدر البنك الدولي آخر توقعاته في يناير الماضي، كما تمتعت الاقتصادات الناشئة التي تلقت التطعيم بشكل أسرع من نظرائها بتحسينات أكبر لتوقعاتها.- على الجانب الآخر، في أفقر 29 اقتصادا في العالم، تلقى 0.3% فقط من السكان جرعة واحدة من اللقاح، وتدهورت آفاق نمو هذه المجموعة بالفعل منذ يناير، حيث من المقرر أن ينمو الناتج المحلي الإجمالي المجمع بنسبة 2.9% هذا العام وليس 3.4% كما كان متوقعا قبل ستة أشهر. سيكون هذا ثاني أسوأ أداء لهم في عقدين (الأسوأ كان العام الماضي).- حتى نهاية مايو، أشارت البيانات إلى حقن 1.3 مليار جرعة من لقاحات "كوفيد 19" عالميًا، ونسبة 1% فقط من هذه الجرعات كانت في أفريقيا، في إشارة صارخة تبرز مشكلة عالمية في عدم المساواة في اللقاحات، لكن الأمر بالنسبة للعالم النامي ليس متوقفًا على تجاوز الأزمة الصحية فحسب.تأثير التطعيم- يساعد اللقاح على النمو بطريقتين على الأقل، حيث يسمح للبلدان بتخفيف الإغلاق أو أي قيود أخرى على التفاعل الاجتماعي لا تزال تعوق الاقتصاد، وفي أماكن مثل نيوزيلندا التي رفعت بالفعل مثل هذه التدابير، فإنه يقلل من خطر تفشي المرض في المستقبل، ويزيد الثقة ويجعل النمو أكثر مرونة.- أطلق بنك "جولدمان ساكس" مؤشر "الإغلاق الفعال" الذي يجمع بين إحصاء تدابير السياسة والبيانات المتعلقة بالتنقل المستمدة من الهواتف المحمولة، وأظهر أن الصخب الاجتماعي والضجيج قد عاد بالفعل إلى العديد من البلدان ذات معدلات التطعيم المرتفعة.- مع تسارع وتيرة التطعيم، ستنضم دول أخرى. في الواقع، إن البلدان التي يرجح أن تحقق أداءً مبهرًا خلال الأشهر القليلة المقبلة، هي تلك التي تحرز في الوقت نفسه تقدمًا سريعًا في تحقيق المناعة، لكنها لا تزال تعمل في ظل القيود الاجتماعية؛ صحيح أنها لم تشعر بعد بفائدة تخفيف القيود، لكن سرعان ما سيكون لديها سبب للقيام بذلك.- نظرًا لأهمية فجوة التطعيم العالمية، يجدر التساؤل عن مدى سرعة سدها، يعتقد مصرف "جولدمان ساكس" أن اليابان وكوريا الجنوبية والبرازيل وتركيا والمكسيك ستمنح جرعة واحدة على الأقل لنصف سكانها بحلول أغسطس المبل، في حين لن تصل جنوب أفريقيا والهند إلى هذا المعيار حتى ديسمبر.- مع ذلك، في كلا البلدين، تعافى العديد من الأشخاص بالفعل من الفيروس، مما يمنحهم مستوى معينًا من المناعة الطبيعية، ويعتقد "مايكل سبنسر" من "دويتشه بنك" أن الهند، على سبيل المثال، يمكن أن تصل إلى مستوى مناعة بنسبة 70% في أقل من تسعة أشهر، وذلك بإحصاء كل من أصيب بعدوى سابقة أو حصل على اللقاح الأول.- في أفريقيا، يظل الافتقار إلى اللقاحات وعدم انتظام الإمدادات التحدي الأول. تم تسليم 28 مليون جرعة فقط في القارة حتى نهاية مايو، أي أقل من 2% من سكان القارة، في وقت قامت فيه بعض البلدان الغنية بتلقيح ما يزيد على نصف سكانها.الانتعاش غير المتكافئ- قد يكون هذا الانتعاش غير المتكافئ لدول العالم أفضل من لا شيء، لكن قوة نمو بعض البلدان يمكن أن تخلق مشاكل إضافية لأجزاء أخرى من العالم. على سبيل المثال، أدى الازدهار في أمريكا إلى ارتفاع أسعار المستهلكين بنسبة 5% في مايو، ويمكن أن يزيد أيضًا من ضغط الأسعار في أماكن أخرى.- يمكن أن يتغذى هذا التضخم على نفسه، مما يجبر البنوك المركزية على الاستجابة. قامت كل من تركيا والبرازيل بتشديد السياسة النقدية في الأشهر الأخيرة، على الرغم من التداعيات المستمرة للوباء، ورفع البنك المركزي الروسي أسعار الفائدة للمرة الثالثة منذ مارس.- يتجه الاقتصاد العالمي نحو انتعاش قوي، ولكن قد يكون الأكثر تفاوتًا، على الإطلاق، وحذر البنك الدولي من أن هناك حاجة إلى مزيد من التعاون الدولي لضمان توزيع أكثر إنصافًا للقاحات لمساعدة الاقتصادات النامية على إعادة البناء.- حذر البنك من أن العديد من البلدان وخاصة الدول الفقيرة، قد تخلفت عن الركب وستستغرق سنوات للعودة إلى مستويات ما قبل الوباء، قال رئيس المجموعة "ديفيد مالباس" إن "استئناف النمو على المدى القريب لا يمكن أن يعوض البؤس الذي أحدثه الوباء على أفقر الفئات وتأثيره غير المتكافئ على الفئات الضعيفة".- علاوة على ذلك، ومع ترقب حالة التضخم العالمي، يخشى صانعو السياسة في الأسواق الناشئة تكرار سيناريو "نوبة الغضب التدريجي" لعام 2013، عندما أدى حديث الفيدرالي عن خفض مشترياته من الأصول إلى ارتفاع مفاجئ في عائدات السندات الأمريكية وعمليات بيع مؤلمة في أصول الأسواق الناشئة.المصادر: أرقام- الإيكونوميست- الجارديان- فرانس برس
مواقع النشر (المفضلة)