"ستكون مدينة نيوم الصناعية أوكساچون حافزًا للنمو الاقتصادي والتنوع في نيوم خاصة، والمملكة بشكل عام، مما يلبي طموحاتنا في تحقيق مستهدفات رؤية 2030".. بهذه العبارات الواثقة، أعلن صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز ولي العهد رئيس مجلس إدارة نيوم في السادس عشر من نوفمبر الماضي، إنشاء المدينة الصناعية "أوكساچون"، وهي المدينة التي ستقدم نموذجًا متقدماً لمراكز التصنيع، نموذجًا لم يشهد له العالم مثيلاً من قبل.
ولعل أكثر ما يلفت النظر في كلمات سمو ولي العهد عن "أوكساچون" هو توقيتها، حيث تأتي في وقت يعاني فيه العالم مشكلات عدة تهدد استقراره البيئي والاقتصادي، من بينها على سبيل المثال، عدم استدامة سلاسل الإمداد بالإضافة إلى التغير المناخي والتلوث وضعف كفاءة الخدمات اللوجيستية، وهذه بعينها هي المشكلات التي تقدم "أوكساچون" حلولًا جذرية لها، مما يجعلها فريدة من نوعها في العالم.
في البر والبحر!
تقع "أوكساچون" بتصميمها ثماني الأضلاع في الركن الجنوبي الغربي من مشروع المملكة الأبرز في "رؤية 2030"، "نيوم" وهي مدينة صناعية نصف عائمة، أي أن نصفها على اليابسة ونصفها الآخر على مياه البحر الأحمر الذي يتدفق عبره 13% من حركة التجارة العالمية بالقرب من قناة السويس، وهو ما سيضع المدينة الصناعية السعودية الجديدة بخدماتها وطريقة عملها المتقدمة، في قلب المنافسة على هذا الخط الملاحي المهم.
لماذا ستكون مدينة نصف عائمة؟ هذا ربما هو السؤال الذي خطر على بال كل من سمع عن مواصفات "أوكساچون" التي ستضم أكبر مجمع صناعي عائم في العالم. وفي الحقيقة إن الهدف من وراء بناء المدينة بهذا الشكل هو رغبة نيوم في تبني مبادئ الاقتصاد الأزرق، بما يمكنها من تطوير الموارد المائية وتقليص استخدام الأراضي للأغراض الصناعية والحفاظ على البيئة، ويظل الهدف الأهم هو الحرص على فتح آفاق أوسع حول كيفية تطوير المدن الصناعية على شواطئ المدن الساحلية المتضررة من تغير المناخ.
وباعتبارها نموذجآ عالمياً فريدآ، ستشكل "أوكساچون" مركزًا للصناعات النظيفة والمتقدمة، كما ستستخدم أحدث تقنيات الثورة الصناعية الرابعة والاقتصاد الدائري لمساعدة الشركات على الابتكار والمنافسة، وذلك من خلال سبع قطاعات رئيسية تشكل أساس التنمية الصناعية في المدينة، وهي الطاقة المتجددة، والتنقل الآلي والمستدام، والبناء الحديث، والإنشاءات العصرية، وتقنيات المياه، والإنتاج المستدام للغذاء، والصحة والرفاهية، والتقنية والتصنيع الرقمي.
لا شك أن طموحات "أوكساچون" وخططها العصرية تتطلب منظومة تشريعية داعمة ومرنة بالقدر ذاته، وهو ما سعى إلى تحقيقه القائمون على المشروع، حيث تم تطوير تشريعات داعمة لمنظومة الأعمال، من شأنها أن تجعل المدينة واحدة من أكثر مدن العالم سهولة في ممارسة الأعمال. ومن المقرر أن يحصل المستثمرون في "أوكساچون" على دعم مركزي لمساعدتهم على تأسيس أعمالهم، حيث يتم بناء مركز لخدمتهم عبر محطة واحدة تلبي جميع احتياجاتهم ومتطلباتهم.
سلسلة الإمداد والموانئ الأكثر تقدما في العالم
في الآونة الأخيرة ارتفعت أسعار الشحن حول العالم مما أدى إلى ارتفاع أسعار المنتجات، وذلك بعدما تكدست الحاويات على أرصفة الموانئ، وسط حالة عارمة من الفوضى عانت منها حوالي 70% من موانئ العالم، وخصوصًا في النصف الغربي من الكرة الأرضية، حيث أصبحت الموانئ العالمية عاجزة عن التعامل مع الطلب الضخم على السلع والمنتجات الذي ارتفع مع بداية انحسار وباء كورونا، في ظل ضعف البنية التحتية وبطء الإجراءات وعدم تكامل الخدمات اللوجيستية، مما ترك الآلاف من السفن عالقة في البحر لمدة أسابيع في انتظار دورها لتفريغ حمولتها.
هذا الأمر دفع القائمون على "أوكساچون" إلى تقديم حلول جذرية تعالج هذا النوع من العقبات، حيث ستحتضن المدينة أول منظومة متكاملة ومؤتمتة لسلاسل الإمداد والموانئ في العالم، وسيتم تشغيلها من خلال منصة رقمية موحدة، توحد بين نظم تشغيل مرافق تسليم الموانئ والخدمات اللوجيستية مما سيسهم في تقليل الوقت الخاص بسلاسل الإمداد بمعدل أسبوعين إلى ثلاثة أسابيع، مع تحقيق سرعة قياسية في التوصيل من السفن إلى المصانع خلال مدة تتراوح ما بين 12 إلى 24 ساعة.
وبفضل الميناء وسلسلة الإمداد المؤتمتين، سوف يتم تسليم 70% من البضائع التي ستصل إلى ميناء "أوكساچون" في اليوم نفسه، وهذه نسبة مذهلة جدًا بالنظر إلى متوسط المدة التي تستغرقها البضائع داخل أحد أشهر موانئ العالم ميناء روتردام الهولندي والذي يقترب حاليًا من 7 أيام، ارتفاعًا من 4 أيام في السابق. وما يقدمه ميناء "أوكساچون" هنا ليس توفيراً في الوقت فقط، بل خفض أيضًا في التكاليف بالنسبة للمصنعين من ناحية والعملاء من ناحية أخرى.
طموحات كبيرة
في تصريحات لـ"بلومبيرغ" قال "فيشال وانشو"، مدير قطاع التصنيع في نيوم والرئيس التنفيذي لـ"أوكساچون" إن ميناء "أوكساچون" الذي ستبدأ عملياته المتعلقة بالحاويات في منتصف 2022 من المقرر أن يستوعب ما يترواح ما بين 3.5 و4 ملايين حاوية نمطية (TEU) بحلول عام 2030، مشيرا إلى أن سعة الميناء قد تزداد مستقبلًا لتصل إلى 9 ملايين حاوية مكافئة، كما أوضح أن المشروع سيخدم بشكل رئيسي شركاء الأعمال في نيوم ومنطقة الخليج بالإضافة إلى الأردن والعراق.
ومن المقرر أن تركز المرحلة الأولى من البناء في مدينة "أوكساچون" الصناعية والتي ستمتد إلى عام 2025، على الجزء الذي سيتم بناؤه على الأرض، حيث إن الجزء العائم من المدينة لا يزال في المراحل الأولى من التصميم.
ستكون "أوكساچون" واحدة من أكثر المراكز اللوجيستية تقدما في العالم من الناحية التقنية، حيث تعتمد على تقنيات متقدمة مثل إنترنت الأشياء وتعلم الآلة والذكاء الاصطناعي والروبوتات، وهذه جميعا ستكون مقترنة بشبكة من مراكز التوزيع المستقلة والمؤتمتة التي يمكنها خدمة طموحات المشروع الأكبر(نيوم) في إنشاء سلسلة إمداد متكاملة وذكية وفعالة، توفر الوقت والتكاليف، وقادرة في الوقت ذاته على تلافي مشكلة التكدس والفوضى التي تعاني منها حاليا أغلب موانئ العالم.
طموحات كبيرة، تسعى المملكة لتحقيقها بخطوات واثقة ومدروسة من خلال مدينة "أوكساچون" الصناعية التي يمكننا القول إنها ستسبق منافسيها تقنياً بجيل أو جيلين على الأقل، مما يعزز من قوة وحضور المملكة في معادلة الاقتصاد العالمي.
"أوكساچون" باختصار، هي إنجاز تفخر به المملكة، وهديتها للعالم، هدية تحمل في طياتها حلولا لمشاكل الكوكب المتفاقمة وعلاجًا لأمراضه المزمنة.
المصادر: أرقام – بلومبيرغ – نيوم
مواقع النشر (المفضلة)