قبل مائة عام فقط لم يكن الاستهلاك والإنفاق كما هو عليه الآن، الاستهلاك الفردي قبل النقل البحري عبر الحاويات كان شيئاً وبعده أصبح شيئا آخر، والفضل فى ذلك يعود إلى الأمريكي "مالكوم ماكلين" رجل الأعمال الرائد الذي أسس لصناعة الحاويات والنقل البحري، قبل "مالكوم" كان البشر يستهلكون المنتجات والسلع المتاحة أمامهم على مستوى الجغرافيا ولم تكن هناك حاجة للاستيراد سوى لسلع قليلة لا تُقارن بآلاف السلع والتى تُنقل هذه الأيام عبر أعالي البحار وبين عشرات الدول والقارات المختلفة.كان من المستحيل أن يفكر أحد المواطنين الأمريكيين قبل "مالكوم" فى اقتناء سلعة تُصنع وتنتج في كوريا الجنوبية مثلاً، أقصى طموحاته أن يجلب هذه السلعة من داخل الأسواق الأمريكية أو عبر كندا أو المكسيك، لكن تطور صناعة النقل البحري ودخول التكنولوجيا في تصميم سفن البضائع العملاقة، أدى إلى تضاعف حمولة السفينة الواحدة مئات المرات، وترتفع حمولتها القصوى من 58 حاوية فقط في ستينيات القرن الماضي، إلى 24 ألف حاوية على ظهر السفينة الواحدة هذه الأيام.بالعودة إلى الحاضر، تتصاعد أزمة سلاسل الإمداد يوما تلو الآخر، لدرجة أنك لو سألت أحد مديري المشتريات ومسؤولي اللوجستيات فى الشركات عن أحوال العمل، فسيقول لك إنه يعيش اسوأ أيام حياته، وإن الأزمة الحالية تُعد بلا شك الأزمة الأسوأ على الإطلاق في تاريخ قطاعات الشحن البحري واللوجستيات والنقل في آخر سبعين عاما.هواتف هؤلاء المديرين لا تتوقف عن استقبال شكاوى لا تنتهي، كل السلع ناقصة تقريباً ولا يوجد شيء متوفر بنسبة 100%، من أشباه الموصلات إلى الدراجات الهوائية ومن أبسط السلع إلى أكثرها تعقيداً، فالكل سواء فى العجز والنقص.لكي نفهم أزمة المشتريات أو سلاسل الإمداد العالمية، علينا أولاً أن نقوم بتفكيك المصطلح، أقسام التخطيط والمشتريات وسلاسل الإمداد فى أي شركة مهمتها هي التوفيق بين طرفي المعادلة: الرجل الذي يقوم بالتصنيع، والرجل الذي يقوم بالنقل، عملية التوفيق الهدف منها هو توصيل الشحنة/البضاعة حتى باب الشركة فى حالة سليمة وبالكمية المطلوبة وفى التوقيت المُحدد.عرض قليل وطلب كبيربهذه الطريقة المبسطة تستطيع فهم سبب حدوث أزمة في سلاسل الإمداد في الفترة الحالية، لأن طرفي المعادلة لديهما أزمة وبالتالي فالمسؤولون عن التوريد أو الإمداد والمشتريات بالشركات يواجهون بالتبعية أزمة أيضاً، مثلا المصانع في الصين تواجه أزمة كبيرة في الطاقة هذه الفترة مما أدى إلى تخفيض الطاقة القصوى لخطوط الإنتاج نتيجة نقص الطاقة الكهربائية، هذا يعني كميات أقل.الكميات الأقل من المنتجات تذهب للموانئ من أجل شحنها إلى المستوردين أو المشترين، لكنها هي الأخرى – أي الموانئ - تواجه أزمة بسبب انتشار كورونا ومتحوراته في عدة موانئ رئيسية خاصة في جنوب شرق آسيا والصين، بالتالي فهي تعاني نقصاً في العمالة، وهذا يضع مزيدا من الضغط على كاهل سلاسل الإمداد.على جانب آخر، سوق مثل الولايات المتحدة يواجه طلباً كبيراً، البعض يصفه بـ"فورة" في الطلب كدلالة على ضخامة حجم الطلب الكبير والمُفاجئ والمُتسارع الذي صدم الشركات عند رفع القيود وإعادة فتح الاقتصادات والمطارات والمقاهي والمكاتب، كل هذا الطلب يضغط على البائعين أو العارضين والذين بدورهم لا يستطيعون مجاراة احتياجات المشترين، والمعتاد دائماً أن العرض يأتي بعد ظهور الطلب وليس قبله.أسعار الشحن عند الذروة!هناك جانب مهم يؤثر على حركة النقل بخلاف الجائحة وعجز الموانئ عن التعامل مع كل هذه الحاويات، هذا الجانب هو أسعار الشحن والتي تضاعفت بشكل غير مسبوق ووصلت لذروتها التاريخية كما لم يحدث منذ الحرب العالمية الثانية، الحاوية الـ 40 قدما كانت تكلفك حتى 2019 نحو ألفي دولار لنقل بضاعتك من الصين إلى الولايات المتحدة، الآن عليك دفع نحو 20 ألفا إلى 25 ألف دولار لنفس الحاوية ومقدماً!البقاء للأقوى
صافي دخل شركات الشحن والخطوط الملاحية الكبيرة سترتفع من 15 مليار دولار في العام الماضي إلى 100 مليار دولار بنهاية العام الجاري، وبافتراض أن الشركات دفعت هذه التكاليف الخيالية فالأزمة تمتد لما هو أبعد من ذلك، من سينقل البضائع من الميناء إلى المصنع؟ إما بالقطارات أو بالقاطرات الكبيرة، وهنا تظهر عدة عراقيل أولها سعر البنزين الذي ارتفع بأكثر من 100% خلال عام.شركات مثل "أبل" و"وول مارت" و"أمازون" أرسلت أفضل رجالها ومعهم جيش من المساعدين ومحترفي اللوجستيات إلى جميع الموانئ الرئيسية في الولايات المتحدة والصين، لوضع حلول مبتكرة متسلحين بنفوذ شركاتهم للتأثير على إدارات الموانئ والخطوط الملاحية لتسريع إفراج واستلام بضائعهم وحاوياتهم، لكن السوق لا يقتصر على الكبار بل إن معظمه من الشركات الصغيرة والمتوسطة، وليست أمريكا فقط بل كل دول العالم يسري عليها نفس الأمر، وهو ما يعني أن البقاء للأقوى.
يتبع
مواقع النشر (المفضلة)