تعاني أوروبا منذ يونيو الماضي أزمة متفاقمة في إمدادات الطاقة من مختلف الأنواع الهيدروكبرونية والأخرى المتجددة، وهو ما رفع الأسعار والفواتير بشكل غير مسبوق منذ سنوات وهدد التعافي الهش الذي تحاول إحرازه الاقتصادات الأوروبية بعد نحو 18 شهراً من الضغط والركود جراء الجائحة.الأمور ساءت لدرجة أن كمية الغاز المسال الذي تدفق لتوليد الطاقة الكهربائية الأوروبية قد وصل الشهر الماضي إلى أقل مستوياته فى ثلاثة أعوام، والمخزونات أيضا عند أقل مستوى في عشرة أعوام، بينما الآمال الأوروبية معلقة على قُرب بداية تشغيل وإطلاق تدفق الغاز عبر الخط الروسي الجديد المثير للجدل "نورد ستريم 2".أسباب الأزمة الظاهرية:- ارتفاع سعر العقود الفورية والمستقبلية للغاز.- مستوى المخزونات أقل من الاحتياجات.- نقص الطاقة المنتجة عن طريق الرياح.أسباب الأزمة العميقة:- أوروبا تحاول التعافي، تقوم بالسحب من المخزونات بدرجة أكبر من المعتادة منذ أواخر 2020، انخفاض المخزون يؤدي إلى انخفاض المعروض من الغاز فترتفع الأسعار.- التعافي من الجائحة واستعادة النشاط الاقتصادي يحتاج إلى طاقة (طلب أكبر) ومع ثبات أو انخفاض الكميات (معروض أقل) من الغاز فترتفع الأسعار.- نقص الإمدادات من روسيا (معروض أقل) بوتيرة أقل من المعتاد، فترتفع الأسعار.- لا توجد رياح فى بحر الشمال، وبالتالي تنخفض مساهمة الطاقة المتجددة في مزيج الطاقة الكهربائية (معروض أقل)، فترتفع الأسعار- منافسة عنيفة بين أوروبا وآسيا (طلب كبير) على كمية محدودة من الغاز (معروض أقل)، فترتفع الأسعار.دور روسيا في الأزمةفي أثناء تصاعد الأزمة الدبلوماسية بين الولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي بخصوص المشروع العملاق لإمداد أوروبا بالغاز الروسي عبر خط "نورد ستريم2"، تتزايد الشكوك في أن "موسكو" قد تعمدت تعطيل أو إبطاء إمداد أوروبا بالغاز لمحاولة كسب نقطة إضافية تعزز موقفها فى مفاوضات "نورد ستريم2".عدد كبير من وسائل الإعلام الروسية المحسوبة على الحكومة تحدثت بشكل مباشر عن أزمة نقص الطاقة الأخيرة في أوروبا وخاصة الغاز الطبيعي، وأن الحل سيكون روسياً وأن "موسكو" على استعداد لزيادة الإمدادات عبر أنابيبها الممتدة داخل الأراضي الأوروبية، كما أن هذه الوسائل عمدت إلى التأكيد على إمكانية الرهان والاعتماد على الغاز الروسي بوصفه الحل الأرخص والأفضل للجارة الأوروبية.الرأي العام في الداخل الأوروبيبدأ اتجاه عام جديد داخل دول الاتحاد ينادي بتسريع منح التراخيص وإنجاز الأوراق المتعلقة بتشغيل وبدء عمل الخط الروسي الجديد للغاز، البعض يظن أن الأمور أصبحت جاهزة ولا يوجد وقت أفضل من الآن لبدء عمل "نورد ستريم2"، وإمدادات الخط الجديد من شأنها أن تقلل من أزمة نقص الإمدادات الأوروبية، وهذه الآراء تنتشر حتى ولو كان الأوروبيون يعلمون في قرارة أنفسهم أن "موسكو" تقوم باستخدام الغاز كسلاح ومع ذلك هم غير مهتمين.من ناحية أخرى، هل الغاز الروسي يكفي؟ لا يبدو ذلك، "نورد ستريم2" وإن كان ضخماً لكنه غير قادر على حل المشكلة بمفرده حتى لو كان الأوروبيون متسامحين مع مسألة ابتزازهم من قبل روسيا، نظراً لأن الكميات الأولية عبر خط "نورد ستريم2" لن تكون قادرة على حل أزمة العرض الحالية، فإنتاج جازبروم الروسية حالياً محدود لأنها تضع أولوية تعبئة المخزونات أولاً بحسب تقديرات شركة أبحاث الطاقة "إس أند بي جلوبال بلاتس".لذلك على أوروبا البحث عن موردين آخرين وأكثر تنوعاً بدلاً من الاعتماد على الموردين التقليديين، خاصة وأن الأزمة حتى وإن حُلت عقدتها في أكتوبر فسوف تتكرر في فترة ديسمبر - يناير القادم مع زيادة الطلب من شمال شرق آسيا على الغاز الطبيعي في ذروة الشتاء، الطلب من هذه المنطقة الآسيوية متوقع له أن يرتفع بمقدار 2.8 مليون طن.إبطاء الانتقال للطاقة المتجددةمزيج الطاقة الأوروبي أصبح يعتمد بشكل مبالغ فيه على الطاقة المتجددة والتي بدورها لا يمكن الرهان عليها على الأقل حالياً، خاصة مع عدم إيجاد مخرج لمشكلة استحالة تخزين الطاقات المتجددة مثلما يتم مع النفط أو الغاز والفحم، في ألمانيا على سبيل المثال تساهم الرياح بنسبة كبيرة من مزيج توليد الطاقة وحين توقفت الطواحين نتيجة عدم وجود رياح فى الهواء، تأثرت سلباً شبكة الكهرباء بأكملها.وهنا السؤال الذي يطرح نفسه: هل تسرعت أوروبا في تنفيذ الانتقال من الطاقة الهيدروكربونية إلى المتجددة قبل أن تبني سلسلة كاملة وتوفر بيئة عمل ملائمة لإنجاح الانتقال والتحول للعصر الجديد من الطاقة؟ماذا عن العقود المستقبلية للغاز؟توريدات الغاز في الشهور التالية توضح الكيفية التي يتوقع بها السوق لأبعاد الأزمة وامتدادها الزمني وسيناريوهات المستقبل، ويبدو من العقود المبرمة حتى الآن أن التجار والموردين والمستهلكين يعتقدون أن مشكلة نقص المعروض من الغاز في أوروبا لن ترى الحل قبل مرور كامل فصل الشتاء القارس وستخمد الأسعار في مطلع أبريل القادم، وهي رؤية شديدة القتامة.ويبدو أن الشتاء القادم سيكون قارساً من ناحية البرودة نتيجة التغير المناخي القاسي وسيكون قارساً من ناحية الفواتير أيضا على المنازل والمصانع، لكن الأهم من ذلك هو الأسئلة التي أثارتها أزمة نقص الطاقة الجارية في أوروبا الآن: هل يمكن فعلاً الرهان على الطاقة المتجددة؟ هل حدث تسرع في الدفع باتجاه التخلي عن الطاقة الهيدروكربونية؟ هل وقعت الحكومات الأوروبية تحت وطأة ضغوط جماعات المصالح البيئية والأحزاب الخضراء دون إجراء الدراسات الكافية؟ هذه هي الأسئلة التي ستشغل بال مجتمع الأعمال وكذلك مراكز البحوث والفكر بعد انتهاء الأزمة.المصادر: أرقام – بلومبرغ – Dutch TFF Gas Futures – مجموعة gas infrastructure Europe – سي إن بي سي – دويتشه فيله.
مواقع النشر (المفضلة)