"أريد استعادة حياتي السابقة".. بنبرة يائسة قال "توني هيوارد" الرئيس التنفيذي السابق لشركة النفط والغاز البريطانية "بي بي" هذه الكلمات بعد مرور ما يقرب من شهر على انفجار بئر ماكوندو في خليج المكسيك في العشرين من أبريل من عام 2010، مما تسبب في وقوع أكبر تسرب نفطي في التاريخ، ووفاة 11 من طاقم منصة الحفر.
بالتأكيد، لم يكن بإمكان "بي بي" تفادي تبعات الأزمة أو تحييدها بشكل تام، خصوصًا أن آثارها البيئية كانت أكبر من أن يتم تجاهلها وظلت لسنوات لاحقة حديث وسائل الإعلام العالمية، ولكن في نفس الوقت كان باستطاعة الشركة تفادي كثير من الأضرار التي لحقت بعلامتها التجارية؛ بسبب تعاطي إدارتها الارتجالي وغير المدروس مع الأزمة والذي ساهم في استفزاز الجمهور أكثر من مرة.الأيام الأولى .. تضارب وتخبطفي الأسابيع والأشهر التالية لوقوع الحادث، تلقت العلامة التجارية لـ"بي بي" العديد من الضربات المتلاحقة التي أدت إلى تراجع سعر سهمها إلى أدنى مستوياته في 14 عامًا وانخفاض قيمتها السوقية إلى ما يعادل نصف ما كانت عليه قبل الأزمة، قبل أن تضطر لتسييل أصول بمليارات الدولارات لضمان توافر أموال كافية لتمويل التعويضات وجهود تنظيف البقعة المتأثرة بالتسرب.بعد يومين من وقوع الانفجار أرسلت الشركة روبوتًا يتم التحكم فيه عن بعد إلى موقع البئر لتقييم حجم الضرر الواقع. وفي نفس اليوم خرجت "بي بي" لتعلن أنه لا يوجد هناك أي تسرب نفطي، وهي النتيجة التي ارتاح لها الجميع وخصوصًا إدارة الشركة التي جنبها هذا الاستنتاج كارثة كبيرة.لكن في الرابع والعشرين من أبريل، عدلت الشركة تقييمها الأولي للحادث وأفادت بأن هناك ما يقرب من ألف برميل يتسرب يوميًا عبر البئر إلى المياه، في حين أشارت تقديرات خفر السواحل الأمريكي بعد ثلاثة أيام إلى أن معدل التسرب اليومي يقترب من 5 آلاف برميل.وفي منتصف مايو 2010 أشارت تقديرات هيئة المساحة الجيولوجية الأمريكية إلى أن معدل التسرب من البئر يقترب من 19 ألف برميل يوميًا، وذلك قبل أن تقوم الحكومة الأمريكية في النهاية بتعديل هذه التقديرات بالرفع إلى 60 ألف برميل يوميًا.حتى يومنا هذا لا تزال كمية النفط التي تسربت بشكل فعلي إلى مياه المحيط لغزًا كبيرًا، ففي حين تشير تقديرات وزارة العدل الأمريكية إلى وصولها إلى 4.2 مليون برميل، تزعم "بي بي" أن إجمالي النفط الذي تسرب لا يتجاوز 2.45 مليون برميل.الرئيس التنفيذي .. أخطاء متتاليةعندما أدلى الرئيس التنفيذي للشركة "توني هيوارد" بشهادته أمام الكونجرس بعد شهر واحد من وقوع الكارثة بدا للرأي العام وكأنه يحاول أن ينأى بنفسه عن تحمل المسؤولية، رفض الرجل الإجابة عن أغلب الأسئلة التي طرحت عليه، وحتى تلك التي وافق عليها، كانت إجاباته عليها عبارة عن جمل من عينة "لم أكن مشاركًا في هذا القرار" أو "لا أستطيع تذكر ذلك" أو ببساطة "لا أعرف"، وهو ما ترك لدى الجميع انطباعًا سيئًا حول قيادته.أحد ****اصر الحاسمة التي تضفي مصداقية على طريقة تعاطي الشركات الكبيرة مع أي أزمة تهدد علامتها التجارية هي القدرة على إظهار التعاطف والاهتمام بالضحايا، المقابلات والبيانات الإعلامية لا يمكنها وحدها إقناع الرأي العام بأن الشركة تهتم فعلًا بأمر الضحايا، يجب أن يعكس سلوك كبار المسؤولين التنفيذيين هذا التعاطف بشكل أو بآخر.ولكن "هيوارد" فشل في فعل ذلك، وساهم في استفزاز الرأي العام الأمريكي تحديدًا بتصرفاته، فعندما ظهر على الشاطئ بعد وقت قصير من الأزمة بدا من ملابسه أنه لا يفهم ما يفعله، حيث ذهب إلى هناك مرتديًا بدلة باهظة الثمن بينما يحاول إظهار التعاطف مع ضحايا ينتمون هم وأسرهم إلى الطبقة العاملة التي تكسب قوت يومها بشق الأنفس.كان من المفترض أيضًا أن يحضر "هيوارد" بصفته أكبر مسؤول بالشركة جنازات ضحايا الكارثة الأحد عشر الذين فقدوا حياتهم خلال الانفجار ولكنه لم يفعل، وفوت بذلك على الشركة فرصة عظيمة لإظهار تعاطفها مع الضحايا وعائلاتهم، وهو ما كان بإمكانه أن يحسن من صورة العلامة التجارية للشركة المستمرة في التدهور منذ بداية الأزمة.هذا بالضبط ما فعلته شركة منتجات الرعاية الصحية "جونسون آند جونسون" في عام 1982 حين حضر كبار مسؤوليها التنفيذيين جنازة الضحايا السبعة الذين فقدوا حياتهم بعد تناولهم أحد منتجات الشركة الملوثة بالسيانيد، وتم تصويرهم من قبل وسائل الإعلام وهم يبكون أمام القبور، هذا النوع من التعاطف هو ما افتقرت إليه "بي بي" خلال أزمتها.بعد أسبوعين ساهم البريطاني "هيوارد" في تعميق الصورة السلبية التي بدأت في التكون لدى الرأي العام الأمريكي حوله وحول شركته "بي بي" عندما نشرت وسائل الإعلام صورًا له تظهر تواجده مع ابنه في سباق لليخوت في جزيرة واكاري الواقعة قرابة السواحل النيوزيلندية، وهو ما جعله يبدو كأجنبي غير مكترث بسواحل الولايات المتحدة ولا ضحاياها."بي بي" تضحي برئيسها التنفيذي الفاشلبعد أن سأم من إدارة "هيوارد" السيئة للأزمة والتي لم تزد موقف "بي بي" إلا سوءًا، قرر مجلس إدارة الشركة في يوليو 2010 استبداله بـ"بوبدودلي" وهو الأمريكي المسؤول عن وحدة الاستجابة لحوادث التسرب النفطي بالشركة، اعتبارًا من الأول من أكتوبر من نفس العام.تعمد مجلس إدارة "بي بي" البريطانية اختيار رئيس تنفيذي جديد يحمل الجنسية الأمريكية يوضح مدى أهمية الولايات المتحدة بالنسبة للشركة التي كان يشكل الأمريكيون في ذلك الوقت نحو 40% من مساهميها، بينما يقع ما يقرب من ثلث آبارها من النفط والغاز الطبيعي والمصافي على الأراضي الأمريكية.خسر "هيوارد" وظيفته بعد فشله في التواصل مع الجمهور ومحاولة تنصله من المسؤولية وهو عكس ما تحتاج إليه شركة مثل "بي بي" في خضم أزمة بهذا الحجم.ولكن ربما عزاء "هيوارد" هو أن هذه الأزمة خلدت اسمه في التاريخ ولكن على نحو قد لا يعجبه، حيث يتم اليوم تدريس طريقة إدارته لأزمة خليج المكسيك في كليات إدارة الأعمال حول العالم كنموذج للفشل الإداري في التعاطي مع الأزمات.المصادر: ارقام – نيويورك تايمز – سي إن إن – التيغرافكتاب: Marketing Big Oil
مواقع النشر (المفضلة)