في ستينيات القرن الماضي، كانت هناك ثلاث شركات محلية تسيطر على سوق الإطارات المطاطية في الولايات المتحدة هي "جوديير" و"فيرستون" و"بي إف جودريتش"، كانت "جوديير" هي متصدر السوق الذي ترغب "فيرستون" صاحبة المركز الثاني في السيطرة عليه، بينما جاءت "بي إف جودريتش" في المركز الثالث.
ولكن في نفس الوقت الذي انهمكت فيه هذه الشركات في التنافس مع بعضها، فشل الثلاث في ملاحظة رياح التغيير التي تهب عبر المحيط الأطلسي والتي تهدد بتغيير وجه الصناعة بأكلمها، لم ينتبه أي منها لتحركات شركة "ميشلان" الفرنسية وإطاراتها الشعاعية الجديدة التي ساعدتها على تصدر وقيادة صناعة الإطارات الأوروبية، لتقف آنذاك على أعتاب السوق الأمريكي.
الثغرة
لم يعط المنتجون الأمريكيون تحركات منافسهم الفرنسي وزنًا بسبب إيمانهم بعدم قدرته على دخول السوق الأمريكي على خلفية القرارات الحكومية التي تمنع تأسيس أي سلاسل توزيع أجنبية لحماية الصناعة المحلية، تمامًا كما فعلت لحماية صناعة السيارات الأمريكية من منافسيها اليابانيين في ذلك الوقت، وبالتالي لن يسمح أحد لـ"ميشلان" بالدخول.
ولكن الشركات الأمريكية الثلاث لم تنتبه إلى حقيقة واحدة، وهي أن شركة "سيرز" الأمريكية أيضًا هي في الواقع أكبر تاجر تجزئة للإطارات في الولايات المتحدة؛ حيث تسيطر على 25% من السوق بفضل منصتها التي تبيع من خلالها الإطارات والبطاريات والملحقات أو الإكسسوارات.
تجاهل الثلاث الكبار لهذه الحقيقة والتي أصبحت لاحقًا نقطة الضعف التي تم ضربها من خلالها كان يرجع بشكل رئيسي إلى أنها جميعًا كانت ترفض التعامل مع "سيرز" أو بيع إطاراتها من خلالها، وذلك لرغبة الأخيرة في وضع علامتها التجارية الخاصة بها على تلك الإطارات وهو ما يعني أنها ستنافس أنفسها.
كان لدى "سيرز" الموردون الخاصون بها، وكانت تبيع كميات كبيرة من الإطارات، ولكنها في الوقت ذاته لم يكن لديها ذلك الاختراع الجديد المسمى بالإطارات الشعاعية، لذلك كان من دواعي سرورها أن تتحدث مع شركة "ميشلان" الفرنسية المصنعة لهذه الإطارات، ولحسن حظها كانت المحادثات مثمرة.
نظرًا لأنه لم يكن لـ"ميشلان" أي وجود في أمريكا، وفي نفس الوقت لم تكن "سيرز" موجودة في أوروبا، لم تر الشركة الفرنسية أي مشكلة على الإطلاق في فكرة السماح لـ"سيرز" ببيع الإطارات الشعاعية باسم علامتها التجارية الخاصة، كان الاتفاق الذي عقد في العام 1966 أقرب ما يكون للزواج المثالي بين الطرفين، حيث أصبحت "سيرز" بمقتضاه صانع السوق لـ"ميشلان" في أمريكا.
قلب الطاولة .. أخطاء كارثية
من خلال هذه الثغرة، دخلت إطارات "ميشلان" الفرنسية التي تبيعها "سيرز" تحت اسم علامتها التجارية إلى السوق الأمريكي، وهي الخطوة التي قلبت أحواله وكانت بمثابة المسمار الأخير في نعش صناعة الإطارات المطاطية الأمريكية، بمجرد دخولها السوق، أصبحت الإطارات الشعاعية هي الشغل الشاغل للقاعدة العريضة من المستهلكين لتتمكن "سيرز" من الوصول بمبيعاتها من تلك الإطارات إلى مليون إطار سنويًا في غضون 4 سنوات فقط.
في لمح البصر وجد صناع الإطارات الأمريكيين أنفسهم وراء المنحنى، ولمحاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه انخرط بعضهم في خطوات عشوائية وارتجالية، على سبيل المثال، حاولت "فيرستون" التحول بسرعة إلى تكنولوجيا الإطارات الشعاعية ولكنها واجهت صعوبات جمة أبرزها أن عملية التحول تحتاج إلى تكاليف ضخمة لإعادة تأهيل المنشآت الإنتاجية، كما أن هذا سيسرع من وتيرة تآكل حصتها السوقية لصالح "سيرز".
ورغم ذلك، فاقمت "فيرستون" مشاكلها وورطت نفسها بشكل أكبر حين سارعت إلى دخول سوق الإطارات الإشعاعية بإطارها الشعاعي "فيرستون 500" الذي اتضح لاحقًا أنه معيب، وهو خطأ كانت له عواقب مدمرة على الشركة، في عام 1980 غرمت الإدارة الوطنية للسلامة على الطرق السريعة "فيرستون" نصف مليون دولار لفشلها في استدعاء 400 ألف من الإطارات التي صنعتها في الفترة ما بين عامي 1973 و1974.
وفي الوقت نفسه، ونتيجة لتحقيقات أخرى أجرتها الإدارة الوطنية للسلامة على الطرق السريعة في عام 1978 وافقت الشركة على استدعاء 14 مليون إطار من السوق، في أكبر عملية سحب للإطارات في التاريخ، وكان على "فيرستون" أن تخصص 234 مليون دولار لتغطية تلك الكارثة.
المفارقة العجيبة!
في عام 1979 قامت "فيرستون" بالاستعانة بخدمات خبير التحول الصناعي "جون نيفين" من أجل مساعدة الشركة على الخروج من مأزقها، وفي غضون عام قام الرجل بإغلاق 7 مصانع أمريكية للشركة وإلغاء ما يقرب من 8 آلاف وظيفة، ولكن في ذلك الوقت كانت إمكانية استعادة "فيرستون" لبريقها في السوق الأمريكي ضعيفة جدًا، وعرف "نيفين" ذلك، وكان هذا هو السبب وراء دفعه الشركة نحو الدخول في مجال إصلاح السيارات ومبيعات التجزئة بدلًا من التصنيع.
بعد أن خارت قواها، بدأت "فيرستون" تفكر في بيع نفسها، وفي مارس من عام 1988 جاء الخاطب الأول وهو شركة الإطارات الإيطالية "بيريللي" والتي عرضت 58 دولارًا للسهم أو 1.86 مليار دولار، ولكن في نفس الشهر انقضت اليابانية "بريدجستون" على المفاوضات لتتمكن من الاستحواذ على "فيرستون" مقابل 80 دولارًا للسهم أو 2.6 مليار دولار، وتوجد بذلك لنفسها موطئ قدم في السوق الأمريكي.
في الوقت الذي تمت فيه هذه الصفقة لم تكن بقية الشركات الأمريكية العاملة في نفس القطاع في حال أفضل، وهذا ربما أبرزته بشكل واضح تصريحات أحد المسؤولين التنفيذيين في "جوديير" الأمريكية لصحيفة "لوس أنجلوس تايمز" في 19 مارس 1983 والتي قال فيها "لم يعد هناك منافسة أمريكية، من يسيطر على السوق الآن أسماء أجنبية قادرة للغاية وتنمو بسرعة كبيرة".
في عام 1986، اندمجت "بي إف جود ريتش" مع شركة الإطارات الأمريكية "يونيرويال" ولكن هذا لم يفد الشركتين بعد أن استمر أداؤهما المالي في التدهور، وبعدها بنحو 3 سنوات، وتحديدًا في عام 1989 قامت "ميشلان" الفرنسية بالاستحواذ على الشركة المندمجة "يونيرويال – جودريتش" مقابل 1.15 مليار دولار، لتصبح "ميشلان" بذلك أكبر منتج للإطارات في العالم.
المفارقة العجيبة في هذه القصة هو أن "بي إف جودريتش" الأمريكية هي المخترع الأصلي لتكنولوجيا الإطارات الشعاعية الأكثر كفاءة والأطول عمرًا من الإطارات العادية.ولكن نظرًا للتكلفة الكبيرة التي تتطلبها عملية تأسيس الخطوط الإنتاجية لهذه الإطارات، رفضت "جودريتش" تطبيق هذه التكنولوجيا في إطارات السيارات وقامت بدلًا من ذلك بتطبيقها في صناعة الطيران ذات هوامش الربح الأعلى.
وفي الوقت نفسه، قامت "جودريتش" بخطوة غريبة كانت السبب في القضاء عليها لاحقًا، وهي بيع ترخيص التكنولوجيا الشعاعية لـ"ميشلان" الفرنسية التي لم تدخر جهدًا ولا مالًا في تطبيق هذه التكنولوجيا في عملياتها الإنتاجية، لتصبح بعد سنوات ملك صناعة الإطارت في العالم، بفضل اختراع لم يخرج من بنات أفكارها.
المصادر: أرقام – نيويورك تايمز – لو أنجلوس تايمز
كتاب: It’S Business, It’S Personal: From Setting a Vision to Delivering It Through Organizational Excellence
كتاب: International Business: Theory and Practice
كتاب: The Self-Destructive Habits of Good Companies: ...And How to Break Them
مواقع النشر (المفضلة)