على مدار التاريخ، حدثت العديد من التحولات المفاجئة في سوق الطاقة والتي قلصت قدرة كثير من الدول على الوصول إلى مصادر الطاقة الأجنبية وزادت من تكلفة وارداتها الطاقية بشكل كبير، فضلًا عن تأثيرها على القرار السياسي لتلك البلدان والتي وجدت نفسها في موقف لا تحسد عليه؛ بسبب عدم قدرتها على الاستغناء عن وارداتها من الطاقة.
الحقيقة السابقة ربما لا يوجد من يدركها أكثر من الصين، والتي تستورد أكثر من نصف احتياجاتها من بعض السلع من الخارج، ففي العقود الأخيرة زاد اعتماد الصين على الواردات الأجنبية من السلع كالنفط والحديد والنحاس وكذلك المواد الغذائية مثل فول الصويا ومسحوق السمك. على إثر اعتمادها المتزايد على الموارد المستوردة زدات مخاوف الصين بشأن أمن إمداداتها، وهو ما دفع الحكومة الصينية إلى استخدام مجموعة متنوعة من الاستراتيجيات للحد من المخاطر المحتملة في هذا الشأن.
يعتبر الاعتماد على عدد قليل من البلدان في تأمين احتياجات الصين من السلع المهمة كالنفط بمثابة تهديد محتمل لأمنها القومي، وعلى هذا الأساس تتمثل إحدى الاستراتيجيات التي تنتهجها الصين في تنويع مصادر الواردات بقدر الإمكان، وهذا لا ينطبق على الدول فقط بل ينطبق كذلك على الشركات التي تمتلك مراكز مهيمنة في السوق العالمي.
تشمل الاستراتيجيات التي تلجأ إليها الصين أيضًا إبرام عقود توريد طويلة الأجل مع الدول الأجنبية، وغالبًا ما تتضمن هذه الاتفاقات تقديم الصين قروضًا أو مساعدات لتلك الدول، في الوقت نفسه شجّعت السياسات الحكومية الشركات الصينية المملوكة للدولة على الاستحواذ على شركات الموارد الأجنبية.
هم النفط .. الألفية الثالثة
في عام 1993 أصبحت الصين مستوردًا صافيًا للمنتجات النفطية، وبعدها بثلاثة أعوام وتحديدًا في عام 1996 أصبحت كذلك مستوردًا صافيًا للنفط الخام. ومنذ ذلك الحين تستمر واردات الدولة الآسيوية من النفط الخام في الارتفاع لتصل حاليًا إلى ما يعادل نحو 75% من إجمالي استهلاكها السنوي. أول مرة تصاعد فيها الجدل في الصين حول أمنها الطاقي كانت في عام 2000، حين زادت واردات البلاد من النفط بشكل حاد، وفي إطار إعداد خطة للتعامل مع الخطر الذي يشكله هذا التطور، شارك في النقاش لجنة التخطيط الحكومية وشركات النفط المملوكة للدولة ووزارة الخارجية والجيش ومختلف مراكز الفكر الحكومية.
وشملت الاستراتيجيات والتدابير التي انتهت إليها هذه النقاشات، تنويع مصادر الواردات النفطية وإنشاء احتياطي نفطي استراتيجي وبناء خطوط أنابيب دولية وتوثيق العلاقات والروابط مع الدول المنتجة لنفط.
تاريخيًا، اعتمدت الصين على عدد محدود من البلدان في تأمين احتياجاتها من النفط، ولذلك أصبحت الجهود المبذولة لتنويع مصادر الإمداد جزءًا مهمًا من استراتيجية الدولة الصينية للحد من مخاطر تعطل الإمدادات، الأمر الذي سيكون له آثار سلبية كبيرة على اقتصاد البلاد، تشمل قائمة موردي النفط إلى الصين حاليًا بلدانًا من الشرق الأوسط وإفريقيا وآسيا الوسطى وأمريكا اللاتينية. في إطار موازٍ، بدأت أكبر شركات النفط الصينية الحكومية مثل مؤسسة البترول الوطنية الصينية (CNPC) وشركة الصين للبتروكيماويات (Sinopec) والشركة الوطنية الصينية للنفط البحري (CNOOC) في الاستثمار بالخارج بداية من أوائل التسعينيات، أي قبل أن يصبح أمن الطاقة مصدر قلق كبير بالنسبة للنظام الصيني. أصبحت هذه الشركات هي الأذرع الرئيسية التي تستخدمها الحكومة الصينية في تعزيز أمنها الطاقي، فبحلول عام 2013 كانت شركات النفط الصينية تعمل في أكثر من أربعين دولة وتنتج حوالي 2.1 مليون برميل، وهو ما يعادل نصف الإنتاج المحلي وما يقرب من خمس الطلب على النفط في الصين في ذلك الوقت.
الاحتياطي الاستراتيجي هناك استراتيجية أخرى تستخدمها الحكومة الصينية في محاولة التعامل مع خطر الانقطاع المفاجئ للإمدادات وتتمثل في إنشاء احتياطي نفطي استراتيجي، وقد تم اعتماد هذه الاستراتيجية لأول مرة في إطار الخطة الخمسية العاشرة للحكومة الصينية والتي بدأت في عام 2001 وانتهت في عام 2005.
في البداية اعتبرت شركات النفط هذه الاستراتيجية مكلفة وغير فعالة، وكانت قلقة من أن يطلب منها تحمل جزء من التكلفة، ومع ذلك نمت احتياطيات النفط الاستراتيجية الصينية بشكل كبير لتصل حاليًا إلى ما يعادل 80 يومًا من الاستهلاك اليومي للبلاد، وذلك لأسباب كثيرة من بينها استغلال الحكومة لانخفاض أسعار النفط لزيادة حجم الاحتياطيات. وفي سياق متصل، يتصاعد القلق في الصين مؤخرًا تجاه الخطر الذي يشكله الاعتماد المتزايد للبلاد على مضيق ملقا الذي يمر عبره ما يقرب من 77% من واردات النفط القادمة إلى الصين، وعلى خلفية إدراكها لحقيقة أن ذلك المضيق يعتبر نقطة ضعف خطيرة، قامت الحكومة الصينية ببناء خطوط أنابيب للنفط تمر عبر آسيا الوسطى وروسيا وميانمار.
القروض مقابل النفط
حاولت الحكومة الصينية تأمين إمداداتها النفطية من خلال استراتيجية يطلق عليها "القروض مقابل صفقات النفط"، وتتضمن هذه الاستراتيجية قيام البنوك الصينية بإقراض الحكومات المصدرة للنفط أو شركات النفط المملوكة للحكومات الأجنبية أموالًا يتم سدادها من خلال صادرات نفطية طويلة الأجل.
تشمل قائمة البلدان التي دخلت مع الصين في هذا النوع من الصفقات كلاً من أنجولا وبوليفيا وفنزويلا، أما قائمة الشركات النفطية المملوكة للحكومات الأجنبية التي حصلت على قروض صينية في السنوات الأخيرة فتشمل "بتروبراس" البرازيلية و"بيترو إكوادور" الإكوادورية و"روسنفت" و"ترانسنفيت" الروسيتين و"كاز موناي غاز" الكازاخستانية و"تركمان جاز" التركمانستانية وهيئة البترول الوطنية في غانا.
ورغم ذلك، تم التشكيك في فاعلية هذه الاستراتيجيات من قبل العديد من الخبراء، والذين يرون أن جزءاً كبيراً من النفط الذي تنتجه الشركات الصينية في الخارج لا يتم شحنه إلى الصين بل يباع في الأسواق الدولية، في حين أن خطوط أنابيب النفط تظل عرضة للهجوم مثلها مثل الطرق البحرية في حال وقوع نزاع عسكري، وفي الوقت نفسه يمكن للدول أن تمتنع عن سداد قروضها الدولية حتى لو كانت مضمونة بالنفط. ولكن في النهاية، تظل هذه الاستراتيجيات تمثل جانبًا مهمًا من الطريقة التي أثر بها الطلب الصيني المتزايد على صناعة النفط العالمية. المصادر: أرقام – مؤسسة بروكينجزكتاب: How China is Reshaping the Global Economyدراسة: Transitions in China’s Oil Economy, 1990–2010
مواقع النشر (المفضلة)