الفا بيتا | التحوط الإقتصادي الروسي (argaam.com)
يعد الإقتصاد الروسي فعليا أقل عرضة للصدمات الإقتصادية وأكثر مرونه بل وأكثر قدرة على تحمل العقوبات المالية والإقتصادية من نظيره الأوروبي ؟ ولا يعد ذلك وليد اللحظة بل تم الإعداد له مسبقا من قبل ضم شبه جزيرة القرم في عام 2014م حيث بدأت نقطة التحول إتجاة الإصلاحات والتحوط الإقتصادي الإستباقي, وبغض النظر أن الحرب فرضت على بوتين وإضطر للدفاع عن أمن بلاده بعدما أصبحت اوكرانيا مرتعا لاعداءه من الامريكان, وحلف الناتو أخذ يطوقه على حدود الدول المجاورة لروسيا مما يهدّد أمنها القومي ولولا ذلك لما تطورت الأحداث, لكن يظل نجح في إختار لحظة توقيت تصعيد العمليات الصحيح التي تزامنت أساسا مع الزيادة في أسعار النفط وبعدها زادت عليها المخاطر الجيوسياسية زياده سعرية إضافيه وكلها تنصب في رفع قوة صمود وتماسك الاقتصاد الروسي بل وتغطي تكاليف الحرب, خاصة وأن سعر التعادل في الميزانيه الروسية بما يعادل ال 40 دورلار والسعر الحالي تجاوز المائة دولار.
وعليه اختارت روسيا التوقيت المناسب والملائم إقتصاديا بالتصعيد,إذا لديها القليل من الديون حيث يمثل الدين العام 18٪ فقط من الناتج المحلي الإجمالي, ولديها فائض وإن كان ضئيل في الميزانية العامة كما حققت إحتياطي مرتفع من العملات الأجنبية والذهب, ونفذت أيضا مبادرات ضبط مالي قوية جدا في السنوات الأخيرة, لكن مازال 45٪ من سكان روسيا يعتمدون بشكل كبير على المساعدات والإعانات الحكومية.
هذه ونوعا ما يعاب على الإقتصاد الروسي أنه غير منتج ولا مبنى على صناعات عملاقه تناسب مايمتلكه من أغلب عناصر ومواد التصنيع بما في ذلك عناصر المعادن التي تستخدم في تصنيع التكنولجيا والإلكترونيات والتقنيات الدقيقة, روسيا تملك مخزون جبار وموارد مذهلة تتعدي مجرد كونها الاولى بمخزون الغاز والثانيه بمخزون النفط والثالثه بالفحم وكل ذلك على المستوى العالمي , ناهيك أنها تحتل المرتبة الأولى عالميا من احتياطيات الفضة بنحو 123 ألف طن والثانية من احتياطيات الذهب بـ 25 الف طن والثالثة من احتياطيات الباتين بـ 10 الاف طن, إلى جانب معادن أخرى مثل الكروم والفاناديوم و الموليبدينوم والنحاس, فضلا عن كونها:
الاولى عالميًا لمعدن البالاديوم
والثانية عالميًا للبلاتينيوم
والثالثة عالميًا للالمنيوم وأيضا معدن النيكل
والخامسة عالميًا للحديد الفولاذ
من وجهة نظرى الشخصية إدارة الاقتصاد الكلي الروسي عموما تعد مذهلة وإحترافية وممتازة للغاية وكيف لا تكون كذلك ورئيس روسيا يحمل شهادة الدكتوراه في الإقتصاد وصمم برنامج تحوط إقتصادي إستباقي يعد نموذج يحتذي به عالميا, وإتخذ عدد من الإجراءات الإستباقية لحماية إقتصاد بلاده ورفع قدرته على تحمل الصدمات الإقتصادية ويعد من أبرزها خفض وتيرة التوسع في الإستثمارات التجارية والمالية الروسية في أمريكا وأوروبا وبالمقابل تم رفعها مع الصين, حيث أقل من نصف تجارة روسيا مع الصين وبلا شك يعد ذلك خطرا إستراتجيا على المدى البعيد لكن لا يوجد له خيارات متعددة أخرى, فضلا أن هولندا وألمانيا والهند ومصر والإمارات أيضا من أكبر الشركاء التجاريين لروسيا.
مع ضرورة التنوية هنا بفاعلية الخطوة الإستباقية بتخفيف رتم الإستثمارات الأجنبية والشركاء الماليين داخل روسيا أيضا لأنهم بنهاية الأمر, بمثابة أموال ساخنة سريعة الهروب خاصة خلال الأزمات وبالمقابل الإستثمارات والشركات التجارية تعد نوعا ما أكثر صلابة بالرغم أنها قابلة للتصفية والإنسحاب, الجدير بالذكر ابتعدت روسيا تدريجيا عن الإعتماد التجاري أو الصناعي على أوروبا قدر الإمكان وطورت بدائل محلية لأغلب ما كانت تستورده منها وركزت جدا على أهمية الإكتفاء الغذائي والإستعداد المسبق بالتقليل قدر الإمكان من التعود على المذاق الأوروبي حتى في أبسط الأطعمه وأقلهما تأثيرا مثل الأجبان سواء بري الفرنسية والإيطالية بارميزان.
عموما التغيير الأكثر لفتًا للنظر من الناحية المالية, يتمثل فيما نفذته روسيا من عمليات ضبط مالي في السنوات الأخيرة حيث بدأت الحكومة بضبط الإنفاق العامة, وفي نهاية عام 2021 حققت الميزانية العامة للحكومة فائضًا ولو قليلا, دفعه أيضا بداء تحسن أسعار الطاقة التي تمثل 80٪ من إيرادات أنشطة النفط والغاز, وكذلك ارتفعت الإيرادات الضريبية بفضل كلا من إرتفاع الاستهلاك الأسري وأرباح الشركات.
وبذات السياق من الضروري التنوية بأن روسيا تملك صندوق سيادي, بمجرد أن يتجاوز سعر النفط 40 دولارا للبرميل, تضع روسيا إيرادات النفط الزائدة عن حاجتها في صندوق الثروة السيادي الذي حقق تقريبا نحو 185 مليار دولار يمثل 12٪ من الناتج المحلي الإجمالي لروسيا، ويمكن من خلاله إذا ماتطلب الأمر تمويل مشاريع تطوير إنتاج النفط أو إحتياجات ومتطلبات التنمية.
كما راكمت روسيا احتياطيات كبيرة من النقد الأجنبي على مر السنين تمثل مامقداره الآن 631 مليار دولار لدى البنك المركزي الروسي أي ثلث الناتج المحلي الإجمالي الروسي, وتعتبر الرابعة على مستوى العالم وبما يكفي لتمويل التجارة الخارجية والمالية العامة والميزانيات في حالة حدوث مشكلة طارئه, كذلك الإحتياطي يفيد في محاولة إبقاء الروبل صامدا قدر الإمكان إذا ما تعرض للهجوم , مع التنوية بأن روسيا قامت تدريجياً بـ "إزالة الدولرة" من اقتصادها وخفضت حصة الدولار من احتياطيات البنك المركزي الروسي من 45٪ في عام 2013 إلى 15٪ في عام 2021 ووفقًا للعديد من المحللين, فأن احتياطيات النقد الأجنبي يمكن أن تحل محل الدخل من صادرات الطاقة إلى أوروبا لعدة سنوات في حال إنقطاعها, في حين أن أوروبا لن يدوم صمودها سوى بضعة أشهر بل أسابيع بدون الطاقة الروسية ومواد وعناصر التصنيع الأخرى التي تصدرها لأوروبا وقادرة على تعطيل عجلة التصنيع الأوروبي بأكملها.
وفيما يخص الإصلاحات الإقتصادية أغلق البنك المركزي في السنوات الأخيرة, عدة بنوك محلية ضعيفة ومنخفضة النمو حتى لا تحسب سلبا فيما بعد على سمعة الاقتصاد المصرفي الروسي كذلك قام البنك المركزي الروسي, مؤخرا برفع الفائدة من 9.54 إلى 20% وذلك في محاولة منه إلى:
•حماية العملة الروسية (الروبل)
•تقليل الإقتراض من البنوك
•السيطرة على تصخم وإرتفاع الأسعار
•تشجيع حاملين العملات الأجنبية على بيعها والتحويل الي الروبل .
عموما عندما تولى فلاديمير بوتين السلطة في أواخر عام 1999 كانت روسيا قد تخلفت عن سداد ديونها, لكن حاليا يمثل الدين العام 18٪ فقط من الناتج المحلي الإجمالي ويتكون الجزء الأكبر منها من السندات المحلية لا الأجنبية, كما تم إعتماد خطة توقع أي عجزًا ولو بنسبة ضئيلة من الناتج المحلي الإجمالي, عبر خطة تمويله من خلال إصدارات السندات في السوق المحلية.
مع ضرورة التنوية هنا بأن حصة الديون التي يحتفظ بها الأجانب منخفضة للغاية (أقل من 14٪ من إجمالي الدين) كما خفضت البنوك المحلية والشركات غير المالية حصتها من السندات المملوكة للأجانب, وتعد المدخرات المحلية أيضا كافية لمواجهة أي عقوبات جديدة من شأنها تقييد مشتريات الدين العام من قبل المستثمرين الأجانب في السوق الثانوية .
وعليه يمكن الذهاب إلى أن الاقتصاد الروسي نوعا ما تحت السيطرة وإن كان يفتقر إلى الآفاق, لكن روسيا وإن نجحت في التحوط الإقتصادي الإستباقي لكن فشلت في بالنهوض بصناعات عملاقه متنوعة بالإقتصاد الروسي حيث يظل النمو الإقتصادي أقل من 2٪ , ناهيك عن قلة التنويع الاقتصادي الذي مازال يعد إقتصاد ريعي يعتمد على صادرات النفط والغاز والفحم حيث يمثل الوقود الأحفوري نسبة لا يستهان بها من الناتج المحلي الإجمالي.
ختاما، يجدر التذكير أن الإقتصاد الأوروبي أقل قدرة بكثير من الروسي على تحمل الصدمات , ناهيك أن قارة أوروبا باكملها تعاني من شيخوخة التركيبة السكانية وعدم تنوع مصادر الطاقة واعتمادها على الغاز الطبيعي الروسي مما جعلها تحت طائلة رحمة روسيا التي تتمتع بنفوذ غير مباشر داخل دوائر صناعة وصياغة القرار في أوروبا التي لا يمكن تشغيل الاقتصاد الأوروبي بدون الغاز والنفط وحتى الفحم والمعادن الآتيه من روسيا,بل أن أي عقوبات حقيقة من الجانب الأوروبي ضد روسي ستكون بمثابة من يطلق النار على نفسه من أوروبا , الأمر الذي أدي بالتأكيد إلى إضعاف القدرة التفاوضية للدول الأوروبية مع روسيا, خاصة عند بداية الغزو الروسي لأوكرانيا التي تعد بوابة أوروبا الشرقية بل قارة أوروبا بأكملها وبالتالي الاقتصاد العالمي.
روسيا باعتبارها ركيزة أساسية لأمن الطاقة بالقارة الأوروبية, من مؤكد أن الصراع الروسي الأوكراني سيكون له عواقب وخيمة للغاية على المدي القصير والبعيد خاصة ارتفاع أسعار النفط والغاز والفحم مما دفع الحكومات الأوروبية الي رفع سقف أسعار فواتير الطاقة بنسبة هائلة بلغت 50٪ الأمر الذي أرغم الشركات الصغيرة وحتى المتوسطه في أوروبا إلى وقف عملياتها لأن تكاليف الطاقة تسبب تأكل بالغ في الأرباح, آما الصناعات الكبيرة قد تكون نوعا ما على المدى المتوسط محصنة ضد الصدمات الاقتصادية, لكن سوف تظل أسعار الطاقة واحدة من ضمن أكبر مخاطر الأعمال خاصة بالقطاع الصناعي.
ومهما حاولت الحكومات الأوروبية حماية المستهلكين من الإرتفاع القياسي في أسعار الطاقة وحماية أنفسهم من غضب الناخبين لكن إذا استمرت أسعار الطاقة بالإرتفاع سوف يحصل ما يعرف بالربيع الأمريكي وأيضا الأوروبي مما سوف يعجل بإسقاط تلك الأنظمة الغربية, هذه وفي الوقت الذي يفرض فيه الغرب عقوبات على روسيا في ضوء الحرب على أوكرانيا سوف تكون نفس تلك العقوبات مضاعفة أثرها على الإقتصاد الأوروبي.
ناهيك أن العقوبات التي سيتم فرضها صعب أن تستهدف تدفقات النفط والغاز لأن سوف تكون كمن يطلق النار على نفسه لا غيره, مما يتسبب في دمارًا اقتصاديًا إذا تم فرض عقوبات على صادرات الطاقة الروسية, وعلية أوروبا بجب أن لا تذهب إلى أبعد من فرض عقوبات رمزية على البنوك الروسية وتجميد بعض الأصول المرتبطة بالنخب الروسية والتي بالنهاية لن تقدم أو حتى تأخر من ماتنوي عليه روسيا فعلا من وراء كل ذلك التصعيد.
مواقع النشر (المفضلة)