المشهد العالمي الراهن يعد بمثابة ولادة نظام عالمي جديد كليا أكثر منه مجرد صراع على فرض السلطة والنفوذ ما بين الولايات المتحدة وأوروبا من جهة وما بين روسيا والصين من جهة أخرى خاصة وأن موسكو وبكين تعمدنا من حين لأخر إلى إظهار العلاقات الجيوسياسية القوية ما بين البلدين عبر إعلان التحدي والتعاون الاقتصادي الصيني الروسي بهدف تكوين جبهة مشتركة ضد أمريكا وأوروبا خاصة بشأن أوكرانيا والعقوبات المحتملة على روسيا.
عموما السياق العام والتهديدات والتحديات الاقتصادية والأمنية قد تغير بشكل جذري العلاقات الاقتصادية بين البلدان أو حتى قد تصوغ نوعًا جديدًا من الشراكة أو قد تهدم العلاقات فيما بينهم بأكملها, لكن السؤال -هنا- هل تستحق ‫أوكرانيا كل ذلك التوتر الدولي رغم أنها لا تتعدى كونها ‬‫سلة خبز أوروبا وإن كانت كذلك منذ عدة قرون من خلال صادراتها خاصة من القمح والشعير والذرة وأيضا الزيوت النباتية, وحتى لو من المتوقع أن غزو أوكرانيا سيفجر أزمة خبز وتحديدا بأوروبا خاصة وأن المناطق الشرقية الأوكرانية تضم العديد من الأراضي الزراعية وتعد عرضة للهجوم الروسي، وبالتالي انقطاع إنتاج القمح الأوكراني سيتأثر على الأمن الغذائي العالمي لأنها من أكبر مصدر القمح بالعالم، والاتحاد الأوروبي ومن أبرز الدول المستوردة والمستهلكة للقمح الأوكراني ومن ثم تأتي الصين ثم لبنان ومصر واليمن وليبيا وإندونيسيا بنغلادش, لا محال بأن هناك "أزمة خبز" قادمة وأسعار الغذاء العالمية ستأخذ بالارتفاع لكن هل ذلك كل ما في الأمر أو أن هناك مخاوف أخرى ذات أهمية إستراتيجية خاصة وأنه من الملاحظ نشاط بريطانيا على المشهد السياسي بشكل مُلفت للنظر وكأنها هنا تستعيد دورها الغائب منذ عهود بإعتبارها الدولة العظمى التي لا تغيب عنها الشمس وتتحكم في العالم، فما حقيقة كل ما يجري من حولنا من أحداث وردات أفعال؟!
السبب الحقيقي من وراء كل ذلك يكمن في الخوف بأن احتلال الروس لأوكرانيا سوف يفتح شهية الروس نحو الاستيلاء على بقية الدول الأوروبية ويتكرر خطأ عام 1939 التاريخي لأوروبا التي ما إن سكتت لهتلر على إقتصاص جزء من تشيكوسلوفاكيا حتى قام بعدها بضم التشيك ثم فنلندا ثم هولندا والدنمارك وبلجيكيا ثم فرنسا، وعليه وقياسا على ذلك لن تتوقف شهية بوتين عند أوكرانيا وحدها وقد يبتلع أجزاء أخرى من أوروبا, وبما أن بريطانيا تعتبر نفسها المسؤول التاريخي الأول عن قارة أوروبا بأكملها تنشط على الساحة السياسيه بشكل لافت للنظر، كما من المتوقع أن تعلن الولايات المتحدة عن عقوبات ضد مصالح روسيا الاستراتيجية والمالية في أثر قيامها بغزو جارتها أوكرانيا التي سبق أن استولت روسيا على شبه جزيرة القرم في عام 2014م عندما دعمت القوات الانفصالية في شرق أوكرانيا, وعلية جاء التلويح الأمريكي البريطاني حول قطع روسيا عن نظام "سويفت" حال غزوها لأوكرانيا وبالمقابل هددت رروسيا بوقف إمدادات النفط والغاز إلى أوروبا إذا تم فصل روسيا فعليا عن نظام الدفع الدولي SWIFT المنبثق مسماه من اختصار لـSociety for Worldwide Interbank Financial Telecounications جمعية الاتصالات المالية العالمية بين البنوك التي تأسست عام 1973 وعليه حلت محل نظام جهاز "التلكس" وعليه جزء من العقوبات الأمريكية المرتقبة ضد روسيا يتمثل في قطعها (فصلها) خارج نظام SWIFT المصرفي الخاص بتحويل الأموال العالمي, والذي يعمل من خلاله 11 ألف مؤسسة مالية في أكثر من 200 دولة ويتتخذ من بلجيكا مقرا له ويخضع للقانون الأوروبي وتتجاوز قيمة تعاملاته اليومية 400 مليار دولار في حين يتألف مجلس إدارة SWIFT من 25 عُضوا من كبار التنفيذيين المصرفيين وعدد من الدول بما فيها روسيا.
السؤال الذي يفرض نفسه هل قطع روسيا عن نظام SWIFT يعد ضمن معاقبة روسيا فعليا أم قد يحمل معه تداعيات سلبية تتعدى روسيا وتصيب الدول الكبرى وخاصة الأوروبيه بالضرر الإقتصادي وبالتالي تعد بمثابة عقوبات على الدول الأوروبية أكثر منها على روسيا بمعنى أخر هل ستكون الدول الكبرى فعلا قادرة على قطع روسيا من نظام SWIFT وتحمل تداعيات ذلك خاصة وأن روسيا تؤمن أكثر من 45% من احتياجات أوروبا من الغاز, كما تعد خامس أكبر شريك تجاري للاتحاد الأوروبي, ناهيك أن هناك العديد من الشركات والأصول العامه داخل روسيا مملوكة من قبل الأوروبيين والأمريكان بقيمة تتجاوز النصف مليار دولار مما سيمنح الروس مجموعة من أوراق الضغط على تلك الدول عبر الشركات متعددة الجنسيات التي تستثمر داخل الأراضي الروسية, فضلا كون روسيا أكبرمزود للطاقة سواء للنفط الخام أو الغاز الطبيعي (خط الأنابيب والغاز الطبيعي المسال مجتمعين) كذلك تعد من أهم مصدرين المعادن ممثله في النيكل والبلاديوم والألمنيوم والبلاتين والصلب والنحاس وغيرها.
هذة ومن المفروض أن يكون نظام SWIFT محايدة سياسيا غير أنه توجد سابقة قطع دولة مثل إيران من âپ§â€«نظام سويفت‬âپ© حين قامت SWIFT بفصل البنوك الإيرانية عن النظام وذلك في عام 2012م بعد فرض âپ§â€«الاتحاد الأوروبي‬âپ© عقوبات عليها بسبب البرنامج النووي وبالتالي خسرت âپ§â€«إيران‬âپ© ثلاث أرباع عائدات تصدير âپ§â€«النفط‬âپ© تقريبا و 70% من التجارة الخارجية وذلك لمجرد أنها منعت من استخدام النظام المصرفي الدولي وبالتالي من تلقي الحولات المصرفية من الخارج وعليه لم تتمكن إيران أن تصدر النفط‬âپ© و âپ§الغاز‬âپ© وغير ذلك من الصادرات الإيرانيه التي لا تمثل أهمية كبرى لإقتصاد العالمي ويمكن تعويضها من الدول الأخرى المصدرة، لكن الأمر يختلف كليا بالحالة الروسية ولا يمكن معالجتها بذات الأدوات, حتى مع وجود سابقه بفصل إيران عن نظام SWIFT وإن لم تمانع حينها أغلب الدول بذلك لأنها وجدت البديل فورا لكن الامر يختلف تماما مع دولة بحجم روسيا, هذة ومعروف بأن قيمة الإقتصاد الروسي ووصادراته بل مكانة روسيا السياسيه تختلف كليا عن الإيرانيه الذي سبق طردها من نظام SWIFT كما لا يمكن للولايات المتحدة إرغام جمعية البنوك بالامتثال القسري بفرض عقوبة ضد روسيا وإن سبق قطع البنوك الإيرانية من نظام SWIFT وذلك بالمرة الأولى من 2012 وحتى 2016 وبالمرة الثانية في 2018.
هذة وفي أسوء الأحوال إذا أصرت الولايات المتحدة على قطع روسيا من نظام سويفت ولم تتجاوب بذلك جمعية الاتصالات المالية العالمية, يمكن لأمريكا سحب مصارفها من نظام SWIFT أو يمكنها التحكم بالبنية التحتية الحيوية لشبكة سويفت من خلال مركز البيانات في ولاية فرجينيا الأمريكية, لكن ذلك سيعطل ويضر سمعة النظام المالي الأمريكي بأكمله كذلك ويكون بمثابه من يعاقب نفسه لا غيره، عموما مجرد فكرة عزل روسيا من SWIFT سيحفزها نحو المزيد من التطوير في إتجاه الأنظمة البديلة والأمر ذاته بالنسبة للدول الأخرى التي على خلاف أيضا مع الولايات المتحدة مثل الصين التي تعمل بالفعل على تطوير أنظمة بديلة, مما يعد تهديدا للنظام المصرفي الأمريكي الذي تسيطر من خلاله على القطاع المالي العالمي، علما بأن الصين فعليا لديها نظام بديل قائم يعرف بـ CIPS مما قد يوفِر نظام الدفع بين البنوك الجديد في âپ§â€«الصين‬âپ©، ويعد بديلاً جاهزا عن نظام SWIFT لكنه لا يزال ضعيفا بالمقارنة مع SWIFT وإن بلغت تعاملاته اليومية نحو 12% من قيمة التعاملات من خلال SWIFT , وبذات السياق ووفق البنك المركزي الصيني كذلك فأن حوالي 140 مليون مستخدم فتحوا "محافظ" لعملة "لليوان" الرقمية الجديدة في الصين, بنحو معاملات وصلت إلى 9.7 مليار دولار.
وبالعودة إلى روسيا التى تحررت من الهيمنة الامريكية ومن نظام SWIFT وبات متاح لها بالفعل إستخدام شبكة الاتحاد الاقتصادي الأوروبي الآسيوي في روسيا SPFS التي تم تدشينه عام 2016 م مما يمثل ضربة كبيرة لفعالية العقوبات الأمريكية المزعومة وعلية لن تكون عمليات إرسال واستقبال الأموال شبه مستحيلة على روسيا أو تتعطل الشركات الروسية وعملاءها الأجانب لان روسيا قد عملت فعلي علي تطوير نظامها المصرفي ونظام الدفع الخاص بها (SPFS) يعد نظاما بديلا وقائما عن SWIFT وقد بدأت بتطويره في 2014 م وذلك عندما ضمت شبه جزيرة القرم إليها ورغم حداثة ومحدودية قدرات النظام الروسي المالي لكن جاري تطويره تدريجيا وبذلك يتلاشي التخوف من عزلها مالياً, خاصة وأن لدى نظام SPFS الآن فوق ال 500 مستخدم وذلك وفقًا للبنك المركزي الروسي, كما قد تعمل أيضًا إلى اللجوء إلى استخدام العملات المشفرة, خاصة أنها أضافت (روسيا) بنودا في عقود النفط والغاز تسمح بالدفع بعملات غير الدولار، وهو ما أكدته عدة شركات تتعامل فعليا مع روسيا.
ما أود الإشارة إليه بأن روسيا و الصين كليهما جهزوا فعليا البديل عن نظام السويفت سواء نظام CIPS الصيني أوSPFS الروسي الأمر تلذي ما تخشاه أميركا فعلا و سيزيد من نفوذ روسيا على الساحة الدولية بل سوف يصبح النظام الروسي ملجئ للعديد من الدول التي قد تخضع مستقبلا للعقوبات الأمريكية أوالأوروبية, مما سيُفقِد أمريكا سيطرتها العالميه والقدره على فرض المزيد العقوبات ناهيك أن المخابرات الأمريكية والغربية لن تستطيع رصد وتتبع حركة الأموال بأكملها بالعالم, وغير ذلك الكثير، أغلب العقوبات الأمريكية المطروحة من الصعب تنفيذها عمليا بما في ذلك وضع الشركات الروسية الكبرى في مجال المال والطاقة والدفاع على القائمة السوداء وفرض قيود على المعاملات المالية الروسية, أو حتى المساس بخط الغاز الروسي "نورد ستريم 2" والذي بالرغم من المعارضة الشديدة للولايات المتحدة تمكنت روسيا بالتعاون مع ألمانيا من فرض إنشاء مشروع خط الغاز الروسي "نورد ستريم 2" المقرر أن ينطلق من مدينة فيبورغ في روسيا إلى مدينة غرايفسفالد في ألمانيا ويبلغ طول الخط (1222) كيلومتراً ويعد بذلك أطول خطّ أنابيب تحت البحر في العالم، ومن المزمع أن ينقل الغاز بين روسيا وألمانيا عبر بحر البلطيق دون المرور بأوكرانيا عكس الخط القديم تماما, مما يساعد روسيا بالتخلص من التعاملات الماليه عبر الدولار التي كانت أوكرانيا تلتزم بها, وعليه فالتحرر الروسي من الإلتزام بالتعامل بالدولار يشكل بالطبع تهديدا للنظام المالي الأمريكي.
وبالمقابل الغاز الروسي يصعب إيجاد بديل يمكن يغطي الطلب على الواردات الغاز الروسية بالقارة الأوروبية سواء على المدى القصير والطويل, خاصة فيما يتعلق بالسعر الذي إعتاد أن يدفعه المستهلكون الأوروبيون وعليه لا بديل عن إستيراد الغاز الروسي سواء على مستوى الكميات أو حتى الأسعار, وإذا ما توقفت روسيا فعليًا من تلقاء نفسها عن إمداد الغاز أو تمت معاقبتها فستكون التكاليف مرتفعة على الدول الأوروبية جدا وسيكون بمثابة عقوبه على الأوروبين بالمقام الأول لا على روسيا.
يتبع
مواقع النشر (المفضلة)