ماتزال إمدادات الغاز نادرة بشكل مثيره للقلق للإقتصاد العالمي الذي بات يعاني من حين لأخر الى الافتقار لإمدادات الغاز فضلا عن عدم وجود حتى الاحتياطات الكافية التي يتعثر بها دوما المسؤولون عن السياسة والإقتصاد معا في معظم الدول الصناعية الأوروبية, ناهيك عن الإفتقار إلى تأمين سلاسل الإمداد من دول بديلة, نقص الغاز عالميا ظهر تحديدا عندما بدء الاقتصاد العالمي بالتعافي من الجائحة, بمعنى أن الغاز المتاح أساسا قليل، لكن في ظل التوترات الجيوسياسية والتي قد يمتد النزاع إلى قطع أو إنقطاع إمدادات الغاز عن أوروبا وعليه يلقي الكثيرون باللوم على روسيا في أزمة الطاقة الأوروبية, خاصة بعد ما قفزت العقود الآجلة للغاز الطبيعي تسليم فبراير (التي انتهت صلاحيتها عند التسوية) بنسبة 46.5% أو ما يعادل 1.99 دولار إلى 6.265 دولار لكل مليون وحدة حرارية بريطانيه, ناهيك عن تصاعد المخاوف من غزو روسي محتمل لأوكرانيا وما قد يترتب عليه وقف لإمدادات الطاقة الروسية إلى أوروبا.
والسؤال الذي يطرح نفسه هل فعلا كما يقولون المنتقدين الأوربيين أن روسيا تتلاعب بأمن الطاقة في القارة لأوروبا العجوزة وتتعمد تقليل الإمدادات من الغاز بهدف الابتزاز و زيادة الضغط السياسي على أوروبا، خاصة وأن شركة غازبروم Gazprom التي تحتكر صادرات الغاز الروسي، تعد مملوكة بالأغلبية من الحكومة الروسية وأكبر شركة غاز بالعالم أجمع والمسؤولة عن تصدير الغاز من روسيا لأوروبا من جهة أخرى يوجد شركة روزنفت الروسية التي تضطلع بإنتاج وتصدير النفط الروسي، وفق الرواية الروسية فإن ذلك ليس صحيحًا حيث إمدادات روسيا لعملائها في أوروبا بالغاز قد أوفت من قبل شركة غازبروم وذلك في كل ما يتعلق بالعقود الخاصة بالتوريد لعملائها الأوروبيين, لكن الطلب في أوروبا أعلى بكثير من العروض الإنتاجية المتاحة مما يجعل الغاز شحيحًا ويترتب عليه أزمة غاز وعلية الشركة من الطبيعي أن تستفيد من ميزة عامل الندرة لدفع الأسعار نحو الارتفاع وتحقيق أرباح أعلى وتعوض الخسائر عن السنوات الماضية خاصة بعد بداية الجائحة في عام 2020 عندما انهارت أسعار الغاز وسجل جميع المنتجون خسائر بما فيهم شركة غازبروم لا يساورني أدنى شك بأن روسيا اليوم تتحكم في قارة أوروبا كما يتحكم تاجر المخدرات تماما بالمدمنين عليه.
هذة و بغض النظر عن انكشاف أوروبا على غاز روسيا الذي يختلف من دوله إلى دولة أخرى بأوروبا حيث تعد ألمانيا الأكثر أدمانا على الغاز الروسي وعليه وكما يقال باللهجة العامية روسيا تمسك أوروبا وخاصة ألمانيا من عنق رقبتهم، وبالمقابل أمريكا تحاول جاهدا وسريعا ترتيب بدائل للغاز الروسي من شتى الدول التي تملك ذلك الغاز لكن أغلب الدول تخشي من انتقام روسيا مستقبلا لأن المساهمة في توفير غاز بديل سوف يسهل على أمريكا معاقبة روسيا وكسرت هيبتها وبالمقابل تسعي روسيا لإفلات من العقوبات حتى تكسر هيبة أمريكا بالمجتمع الدولي وعليه هناك سباق محمول على من يكسر أضلع الأخر أولا.
عموما العقوبات الاقتصادية التي تعتزم الولايات المتحدة فرضها على روسيا في حالة حدوث تصعيد مسلح حول أوكرانيا قد تهدد استقرار النظام المالي العالمي, وأمن الطاقة بالقارة الأوروبية وتتسبب في إنخفاض حاد بمخرجات الناتج المحلّي الاوروبي, الأمر الذي تعرفه روسيا جيدا وتراهن عليه جيدا جدا كذلك، من جهة أخرى وثيقة الصِّلة بالموضوع المراقبين يؤكدون أن موسكو تتعمد أن تثير أزمة الطاقة في أوروبا سواء بالنسبة للغاز أو حتى النفط لتحقيق أهداف سياسية، خاصة وأن بإمكان روسيا ضخ المزيد ناهيك أن ما يصل لأوروبا من الغاز حاليا أقل مما كان قبل الجائحة ويمكن لها إذا أرادت أن ترفع إمدادات الغاز إلى ثلث الكميات الإضافية من الغاز عبر خطوط الأنابيب الحالية وذلك برفع قدرات خطوط الأنابيب لزيادة عمليات التسليم خاصة أن الغاز والإمكانيات متاحة بالتأكيد لدى الجانب الروسي لكن شركة غازبروم لا تريد التوسع ورفع عمليات ضخ الغاز وبالتالي التسليم وذلك بهدف الضغط على أوروبا من جهة ودفع الأسعار نحو الارتفاع من جهة أخرى.
ومما يدعم الشكوك في النوايا السياسية الروسية من وراء نقص الإمدادات الروسية من الغاز يمكن ملاحظته في تصريح سابق وقديم حيث قال بوتين إنه إذا تمت الموافقة على خط أنابيب Nord Stream نورد ستريم 2 الذي يمر على بحر البلطيق فيمكن تسليم المزيد من الغاز في اليوم التالي, هذه و يعد الغاز الروسي سلاح ذو حدين بالنسبة لأوروبا وكذلك روسيا حيث إنقطاع إمدادات الغاز سوف ينتج عنه سلبيات على روسيا وأوروبا معا, بالنسبة لروسيا بحالة الحرب إغلاق الغاز كليا سوف يتضرر إقتصاد روسيا الذي يعتمد على صادرات الغاز بنسبة 45٪ , لكن بالمقابل يعتمد الإقتصاد الأوروبي على إستيراد الغاز بنسبة 90٪ حيث يأتي 40٪ من روسيا وعليه قطع الإمدادات سوف يعود بخسائر على روسيا حيث يعتمد اقتصادها على نفط وغاز معا بل وسوف يكون الضرر متبادلاً كذلك على أوروبا, التي تختلف حاجتها من الغاز ولاسيما في بعض الدول, مثل ألمانيا وإيطاليا لأن إنكشافهما من الغاز يعد الأعلى مما يفسر ولو جزئيًا موقف برلين من واشنطن.
الإنكشاف الألماني على الغاز الروسي مرتفع جدا, والإعلام المحلي عند تناول القضية يخلط ما بين الدول الأوروبية الأكثر إستهلاكا للغاز بالعموم, وبين الدول الأكثر إنكشافا على الغاز الروسي في القارة الأوروبية , وبالرغم أن ألمانيا تعد رابع أقوى اقتصاد بالعالم وتعد الأقوى اقتصادا بأوروبا باقتصاد بقيمة 3.4 تريليون دولار تليها بريطانيا باقتصاد بقيمة 2.9 تريليون دولار ثم فرنسا المرتبة الثالثة بالقائمة بـ 2.4 تريليون دولار ومع ذلك حذر وزير الإقتصاد الألماني من أن أي عقوبات إقتصادية محتملة ضدّ روسيا ستؤثر على ألمانيا، معضلة الطاقة الألمانية تتمثل بالاعتماد على روسيا وليس سرا بأن بوتين يتحكم في ألمانيا مثلما يتحكم التاجر في المدمن خاصة وأن اعتماد ألمانيا على الغاز القادم من روسيا بنسب تصل إلى نحو (75- 85%) وعلية وفي ظل الأوضاع الحالية والتداعيات المتعلقة بالأزمة الروسية الأوكرانية فقد وقعت ألمانيا تحت رحمة روسيا نظرا لاعتماد الهائل على النفط والغاز الروسي مما يجبرها على تقديم تنازلات عديدة, الأمر الذي تخشاه أمريكا وعلية بدأت محادثات واسعة مع العديد من الشركات والدول العالميه المنتجة للغاز للمطالبة كل شركة ولو بزيادة الصادرات بكميات وأحجام صغيرة وإن كانت من مصادر متعددة, هذه مع إحتمالية أن تخفض حصة الغاز المحولة لأوروبا من حصة الصين واليابان وكوريا الجنوبية لأن أحجام وكميات الغاز تعد محدودة للغاية.
أمريكا تحاول قدر المستطاع وضع خطة لإستبدال واردات الغاز الروسي من أوروبا, بعدد موردين آخرين, حتى وإن كانت الخيارات محدودة للغاية, والأمر لا يتعلق بمجرد إمتلاك احتياطيات الغاز تحت الأرض بل يتعلق أيضًا بالقدرة على نقل الغاز بحالة سائلة في ناقلات, وعليه تحاول أمريكا على الأقل إيجاد غاز من تلك الدول المحدودة والتي يمكن أن تملك الإمكانيات والمقومات معا, وللتوضيح وعلى سبيل المثال أستراليا من كبرى الدول المصدرة للغاز لكن البعد الجغرافي ليس في صالحها ناهيك عن تكلفة النقل المرتفعة, آما قطر مشكلتها أيضا إرتفاع السعر بسبب تكلفة تسييله وإعادة تحويله إلى غاز عند وصوله إلى أوروبا التي عرفت تكلفة ذلك منذ سنوات عند عجز الغاز الطبيعي لديها, فضلا وهو الأهم قطر ترتبط بعقود توريد غاز طويلة الأمد مع عملاء سابقين ولا تستطيع تجاوز تلك العقود أو تعديلها ولا تملك السعة الإنتاجية لإستمرار طويلا بالإنتاج بالحد الأقصى, ناهيك أن غاز روسيا ينقل لأوروبا عبر الأنابيب آما قطر سيكون بالناقلات البحرية (تكاليف أعلى) , يذكر هنا أن سوريا سبق و رفضت عبر أرضيها أن تمد أنابيب الغاز القطري لأنها بمثابة منطقة نفوذ روسيا ولا تستطيع الإضرار بمصالح روسيا الإقتصادية.
من وجهة نظري أرى أن قطر ملتزمة بعقود توريد غاز مع آسيا وبغني أن تخلق عداء مع روسيا وتعوض الغاز الروسي حتى يمكن بعدها أن تفرض عقوبات أمريكية علي روسيا, لذلك من الأفضل لها الإعتذار بأن سعة الإنتاج لا تسمح بزيادة وتنأي بنفسها عن المشاكل, خاصة وأن هناك مورد آخرين, أقرب للقارة الأوروبية ويمكن من جنوب أوروبا أن تقوم الجزائر بالتوريد لإسبانيا وإيطاليا عبر خطوط أنابيب الغاز, ومن شمال أوروبا يمكن يساهم الغاز الليبي المتوقف نوعا ما, والنرويج كذلك إنتاجها يمكن أن تساهم في تزويد بولندا، هذة يجدر التذكير بأن خط أنابيب نورد ستريم Nord Stream الروسي يعد أكبر خطوط الغاز في العالم والأكثر إثارة بالخلافات الجيوسياسية رغم أنه يؤدي إلى توفير الغاز الطبيعي من خلال خطوط لأنابيب الغاز الطبيعي من روسيا وخلال أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي حيث ينقل الغاز الروسي إلى ألمانيا وبالطبع عند عبور الغاز الروسي من أراضي أوكرانيا إلى أوروبا كانت أوكرانيا تستفيد من ذلك ماليا نحو مليارين إلى 3 مليارات دولار سنويا من رسوم العبور التي سوف تخسرها الآن وكذلك كانت تستفيد الولايات المتحدة التي أجبرت أوكرانيا على شراء وبيع الغاز الطبيعي الروسي بالدولار أمريكي.
ونظرًا للنزاعات بين روسيا وأوكرانيا عملت روسيا منذ أعوام على تنفيذ مشروع "نورد ستريم 2" الذي بات جاهزا الآن بأن ينقل الغاز بين روسيا وألمانيا عبر بحر البلطيق دون المرور بأوكرانيا وبالتالي سيتم التخلص من التعاملات المالية عبر الدولار، مما يشكل بالطبع تهديدا للنظام المالي الأمريكي, بالنهاية رغم معارضة أمريكا تمكنت روسيا بالتعاون مع ألمانيا من فرض إنشاء خط الأنابيب الذي ينطلق من مدينة فيبورغ على الشاطئ الروسي إلى گرايفسڤالد في الساحل الألماني ويبلغ طول الخط (1222) كيلومتراً ويعد بذلك أطول خطّ أنابيب تحت البحر في العالم.
ختاما,, يمكن الذهاب بالقول بأن نفوذ الدول لا يقوم فحسب على مناطق إنتاج الطاقة بل أيضا على يقوم على تأمين خطوط وممرات النقل والإمدادات للطاقة, ولا أخفي القارى الكريم عند قراءتي لعدة تقارير أوروبية والإطلاع علي الخرائط الماتعة للنظر والعقل قد زادت حصيلتي العلمية كثيرا وتمكنت من الإجتهاد بكتابة المقال الماثل بين أياديكم الكريمة والذي بذلت فيه مجهود جبار بهدف حصر المادة العلمية والبيانات وذلك من عدة مصادر أوروبية وخاصة الألمانية , ولأن ختامها كما يقال مسك يطيب التذكير بأن السعودية لم تعد منتج للنفط فقط بل أصبحت منتج للطاقة بمصادرها المتعددة وبصورة منافسة وذات كفاءة اقتصادية عالية , وباذن الله تعالى ثم بجهود الرجال المخلصين, سيتم إنتاج الغاز قريبا من حقل الجافورة بالسعودية الذي سينتج أكثر من ملياري قدم مكعب من الغاز قبل حلول عام 2030م .
مواقع النشر (المفضلة)