وقفات تأمل مع عامنا 1445 الهجري الجديد

كانت الهجرة في الثاني عشر من ربيع الأول – على أرجح الأقوال – ولكن الصحابة – رضي الله عنهم –
ابتدؤوا العام بالمحرَّم؛ لأنه هو بداية السنة القمرية عندهم؛ ففي السنة السادسة عشرة من الهجرة
اختار الخليفة العبقري الفذُّ عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – الهجرة ليؤرِّخ المسلمون بها تاريخَهم..

هذا؛ وقد طُرِحَت أمامه – رضي الله عنه – اقتراحاتٌ متعدِّدة:



  • منها أن يؤرِّخوا بتاريخ الفرس.
  • ومنها أن يؤرِّخوا بتاريخ الرومان
  • ومنها أن يؤرِّخوا من مولد الرسول – صلى الله عليه وسلم.
  • ومنها أن يؤرِّخوا من مبعثه – صلى الله عليه وسلم.
  • ومنها أن يؤرِّخوا من وفاته – صلى الله عليه وسلم.



ولكنه استحسن أن يؤرِّخ المسلمون من هجرته – صلى الله عليه وسلم –
لعِظَم شأن الهجرة، ووافقه الصحابة – رضي الله عنهم – وارتبط حادث الهجرة بشخصيتنا،
وفي نهاية كل عام وبدايته نذكر الهجرة.

والتأريخ من أهم أبرز معالم ومقومات الهوية الذاتية للأمم، وقد ظلت أمتنا محافظة على هذا المَعْلم الحضاري
(الاعتماد على التأريخ الهجري) حتى أواخر القرن التاسع عشر تقريبا، ومنذ عهد الخديوي إسماعيل باشا
وتحديدا عام 1882م بدأنا نبتعد شيئا فشيئا عن الاعتماد على التأريخ الهجري في تحديد مهماتنا وأوقاتنا على المستوى الشعبي والرسمي، وتجدر الإشارة إلى أن مصر كانت تعتمد قبل هذا التوقيت على التأريخ الهجري والقبطي.

إضافة إلى أن ذكرياتِنا وأمجادَنا كلَّها مسجَّلة بالتقويم الهجري، وإن كثيرًا من أحكام ديننا مرتبطٌ بالتقويم القمري،
الذي هو الأساس في التاريخ – كالصيام والحج – مما يوجب على أساطين الثقافة وأئمة الفكر في مجتمعاتنا التنبيه إلى ضرورة الاعتزاز به والمحافظة عليه؛ لأنه يدل على الأصالة، ويُعِينُ على التميز.. على حد ما نقله الإمام السخاوي عن العماد الأصبهاني من قوله:


“فليست أمةٌ أو دولة إلا ولها تاريخٌ يرجعون إليه، ويعولون عليه، ينقله خَلَفُها عن سَلَفِها، وحاضرُها عن غابرِها،
ولولا ذلك لانقطع الوصل، وجهلت الدول… وإن التاريخ بالهجرة نسخ كل تاريخ متقدِّم”.

وها نحن أولاء نودِّع عامًا هجريًّا قد مضى، ونستقبل عامًا هجريًّا جديدًا، لقد مضت سَنَةٌ من عمرِ كلِّ واحد منا، ودنَونا من آجالنا التي كتبها الله لنا، أفلا يَجدُر بنا أن نقف وقفةَ تأملٍ، نحاسب فيها أنفسنا ونراجع رصيدنا كما نفعل في كافة الأمور.. الاقتصادية والمعيشية والعلاقات الاجتماعية؟!.
إننا في بداية العام الهجري الجديد 1444 نستلهم الدروس المضيئة من حادث الهجرة المباركة.. فقد كانت الهجرة بداية لعهد جديد هو عهد البناء وعهد العطاء وعهد الإشعاع برسالة الإسلام وتجسيد حقائقه في الواقع المعيش، والهجرة اليوم هي هَجْرٌ لما يغضب الله ويهدم الأديان ويخرب الأوطان، وذلك هو ما ينبغي التذكير به والإلحاح عليه في بداية كل عام هجري.
إن من فضل الله علينا أن أمهلنا لعام آخر، وأملى لنا كي نرجع إليه، فنحن نودع اليوم عامًا، ونستقبل آخر، نودع عامًا بحسناته وسيئاته، بتقصيرنا وتفريطنا، بخيرنا وشرنا، ونستقبل عامًا ينادينا.. يا *** آدم، أنا عام جديد، وعلى عملك شهيد، فاغتنمني فإني لا أعود إلى يوم القيامة.
إن التاجر الناصح هو الذي يُعِدُّ دراسة شاملة في بداية صفقته، ويعد كشف حساب في نهايتها؛ ليرى أين مواطن قوته وربحه، وأين مواطن ضعفه وخسارته، هذا في أمر الدنيا.. أما في أمر الآخرة فإننا نحتاج إلى محاسبة للنفس قبل الحساب..
ولا يخفى عليك أيها القارئ الكريم أن مما يحاسب عليه الإنسان يوم القيامة سؤاله عن أربع،
كما روى
الترمذي أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: “لا تزولا قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن علمه ما عمل به، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن جسمه فيما أبلاه”.
وإنَّ أوَّل ما يُحاسب عليه العبد يوم القيامة الصلاة، كما روى أبوداود في الحديث الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: “إنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ النَّاسُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ أَعْمَالِهِمْ الصَّلَاة، يَقُولُ رَبُّنَا لِمَلَائِكَتِهِ: انْظُرُوا فِي صَلَاةِ عَبْدِي، أَتَمَّهَا أَمْ نَقَصَهَا؟ فَإِنْ كَانَتْ تَامَّةً كُتِبَتْ لَهُ تَامَّة، وَإِنْ كَانَ انْتُقِصَ مِنْهَا شَيْئًا قَالَ: انْظُرُوا هَلْ لِعَبْدِي مِنْ تَطَوُّعْ؟ء فَإِنْ كَانَ لَهُ تَطَوُّع، قال: أَتِمُّوا لِعَبْدِيِ فَرِيضَتَهُ مِنْ تَطَوُّعِهِ. ثُمَّ تُؤْخَذُ الْأَعْمَالَ عَلَى ذَلِكَ”.
وتشهد الجوارح والجلود على صاحبها وهي تعلن قائلة: {أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فصلت: 21].
فمن أراد أن ينجو من هذا الخزي والسؤال يوم القيامة، فليحاسب نفسه في الدنيا قبل حسابها في الآخرة، ذلك ما ذكرنا به الله -سبحانه وتعالى- عندما قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر: 18].
وها هو ذا الفاروق -رضي الله عنه- يفهم هذه الآية فهمًا دقيقًا ويقول لرعيته: (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، وتزينوا للعرض الأكبر).
يقول عامر بن عبد الله رضي الله عنه: (رأيت نفرًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبتهم، فحدثونا أن أحسن الناس إيمانًا يوم القيامة أكثرهم محاسبة لنفسه).
وهذا الحسن البصري: يبكي في الليل حتى يُبكي جيرانَه، فيأتي أحدهم إليه في الغداة يقول له: لقد أبكيت الليلة أهلنا. فيقول له: (إني قلتُ: يا حسن، لعلَّ الله نظر إلى بعض هنَّاتك فقال: اعمل ما شئت فلست أقبل منك شيئًا)!.
إننا عزيزي القارئ في شهر المحرم، وهو من أفضل الشهور.. فعن أبي ذر الغفاري -رضي الله عنه- قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أي الليل خير؟ وأي الأشهر أفضل؟ فقال: “خير الليل جوفه، وأفضل الأشهر شهر الله الذي تدعونه المحرم“.
ومن فضله رغَّب النبي في صيامه، فقال: “أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله الذي تدعونه المحرم”.
– وعن قتادة: أن الفجر الذي أقسم الله به في أول سورة الفجر، هو فجر أول يوم من المحرم تنفجر منه السنة.
– ولما كانت الأشهر الحرم أفضل الأشهر بعد رمضان أو مطلقًا، وكان صيامها كلها مندوبًا إليه كما دلنا عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وكان بعضهم ختام السنة الهلالية، وبعضهم مفتاحًا لها، فمن صام في شهر ذي الحجة -سوى الأيام المحرم صيامها منه- وصام في شهر الله المحرم فقد ختم السنة بالطاعة وافتتحها بالطاعة.. فيُرجى أن تكتب له السنة كلها طاعة، فإن من كان أول عمله طاعة، وآخره طاعة، فهو في حكم من استغرق بالطاعة ما بين العملين.
– قال بن المبارك: (من ختم نهاره بذكر كتب نهاره كله ذكرًا). يشير هذا القول إلى أنَّ الأعمال بالخواتيم، فإن كان البداءة والختام ذكرًا فهو أولى أن يكون حكم الذكر شاملاً للجميع، ويتعين افتتاح العام بتوبة نصوح تمحو ما سلف من الذنوب السالفة في الأيام الخالية.
كان أحمدبن عطاء الله السكندري يقول: “من كانت له بداية مُحرقة كانت له نهاية مُشرقة”.
شهر الحرام مبارك ميمـون *** والصوم فيه مضاعف مسنون
وثواب صائمه لوجـه إلهه *** في الخلد عنه مليكـه مخزون

هيا ردد معي عزيزي القارئ:
“اللهم ما عملتُ من عمل في السنة الماضية ولم ترضه، ونسيتُه أنا ولم تنسه أنت، وحلمتَ عني مع قدرتك على عقوبتي، ودعوتَني إلى التوبة بعد جرئتي عليك، اللهم أستغفرك منه فاغفر لي، اللهم وما عملتُ من عمل ترضاه ووعدتني عليه الثواب والغفران فتقبله مني ولا تقطع رجائي منك يا أرحم الراحمين”.