في خضم المواجهة الملتهبة بين القطبين الكبيرين، أول وثاني أكبر اقتصادين في العالم، يتساءل اقتصاديون كثر عما إذا كانت الصين، الدائن الأكبر للولايات المتحدة، تنوي إشهار سلاح الديون، في مواجهة غريمتها من أجل اقتناص بعض المكاسب السياسية والاقتصادية في حربهما الراهنة؟، لكن السؤال المحير للكثيرين، هو لماذا تقرض الصين عدوتها مئات المليارات بالشكل الذي يجعلها ثاني أكبر مالك أجنبي للدين العام الأمريكي بعد اليابان؟، وما الذي يمكن أن تستفيده بكين من حيازة 1.047 تريليون دولار من سندات الخزانة الأمريكية؟.تكتسب السندات الأمريكية جاذبيتها من كونها أداة الدين لأكبر اقتصاد عالمي، إذ تستطيع واشنطن سداد ديونها اعتماداً على الثقة الضخمة باقتصادها الضخم، والذي يوفر لها إمكانية الاستدانة أكثر، بالإضافة إلى ثقة الدائنين بقدرة الحكومة الفيدرالية على تحصيل ضرائب كافية لتمويل أصل الدين وفوائده، فالاستثمار في الديون الأمريكية تعد من أقل الاستثمارات مخاطرة في العالم، ولذلك تظل سنداتها من أكثر الأصول طلباً في العالم.وعندما تقوم الحكومة الصينية عن طريق بنكها المركزي ب**** فائض الدولارات المملوك من قبل الشركات الصينية، مقابل بيعهم اليوان للاستخدام المحلي، فإن السلطات تخلق بذلك ندرة في الدولار، وترفع الطلب عليه، بينما تزيد من عرض اليوان الصيني في السوق العالمي، رافعة بذلك سعر الدولار، ومخفّضة لسعر اليوان أمامه، ما يفيد في إبقاء المنتجات الصينية متمتعة بامتياز تنافسي على غيرها من الصادرات في العالم، بسبب انخفاض سعر شرائها.في الوضع الطبيعي، تبدأ هذه العملية الاقتصادية بعكس نفسها في السوق، فعند انخفاض سعر العملة، تصبح الصادرات أقل ثمنا؛ ما يعني زيادة التصدير، وتصبح المستوردات أعلى سعرا بالنسبة للصينيين؛ ما يعني انخفاض استيرادهم، ويجب أن يسهم ارتفاع التصدير في ارتفاع سعر العملة لاحقا، لتكون آلية تصحيح ذاتي، فزيادة التصدير تعني زيادة الدخل والثروة، وتؤدي إلى زيادة القدرة على الاستيراد والطلب الخارجي بالعملة الأجنبية، وذلك عكس العملية الأولى، التي تؤدي إلى ارتفاع سعر اليوان مقابل الدولار.لا تكتفي الصين ب**** الدولارات من شركاتها المصدرة، بل تستخدم هذه الدولارات ل**** الدين الأمريكي المسعّر بالدولار، ما يعني ارتفاع الدولار أكثر، وعندما تجد الدولة الأمريكية من يقدم لها الديون، فإنها تصبح قادرة أكثر على الاستيراد؛ بما في ذلك الاستيراد من الصين، بينما تستفيد الصين من التصدير للولايات المتحدة، ومن عائدات السندات، مما يعني أننا بصدد حالة ربح متبادل بين الطرفين.يقيناً، فإن هدف بكين الأساسي من **** الدين الأمريكي ليس تهديد الغريم التقليدي، وإنما لأنه مفيد لاقتصادها، إذ تملك وحدها من بين دول العالم 3.5% من إجمالي الدين الأمريكي، وقد بدأت الصين منذ فترة قريبة بالتخلي عن نسبة كبيرة مما كانت تملكه من السندات في السابق، وقامت بيعه في السوق، ورغم ذلك ما تزال نسبة ملكية الصين للدين الأمريكي كبيرة، خاصة وأن السلطات الفيدرالية تعتبر الصين دولة متربصة بهم، رغم كل المصالح التجارية القوية بينهما، ولهذا، يتخوف الأمريكيين من احتمالية قيام بكين بعرض حصتها من الدين الأمريكي مرة واحدة في السوق، وهذا الخيار المؤلم أشبه ما يكون بـ "السلاح النووي" نظرا لتأثيره القوي على الأسواق. تاريخياً، لم يؤثر بيع السندات التدريجي من قبل الصين على الاقتصاد الأمريكي، والواقع أن بكين تستهدف خفض ديونها لدى واشنطن حتى تصبح 800 مليون دولار فقط، دون أن يعني ذلك أن تقوم بعرض ما لديها من السندات الأمريكية مرة واحدة، لكن مع زيادة مخاطر الخلافات الثنائية، فإن احتمالية استخدام الديون كسلاح ترتفع أكثر، وفي حال قيام الصين ببيع جزء كبير مما تملكه فإن ذلك سيؤدي للإخلال بسوق السندات، وقد يشجع أطراف أخرى على بيع سنداتهم التي يملكونها، لأن زيادة العرض بشكل مفاجئ سيخفض سعر السندات، وسيرفع سعر الفائدة.إذا نجح التنين الصيني في خلق صدمة زيادة المعروض من السندات الأمريكية، والدفع بمستثمرين آخرين لبيع سنداتهم نظراً لانخفاض أسعارها، فإن ذلك سيعني ارتفاع سعر فائدة هذه السندات، مما سيزيد كلفة الاقتراض على الحكومة الأمريكية، ولا شك أن هذا الأمر سيرفع من كلفة الضرر الكبير الذي سيصيب سوق السندات الأمريكية في الصميم، وسيرفع كلفة الاقتراض على الأمريكيين.في حالة التوجه نحو موجة بيعيه فستنخفض الثقة أكثر بالاقتصاد الأمريكي ككل، وسيرفع أسعار الفائدة بشكل عام؛ ما يعني زيادة تكلفة الاستثمار، إلا أننا نعتقد في المجمل أن مثل هذا السيناريو غير مرجح إلا في الحالات القصوى؛ مثل حصول نزاع عسكري بين الطرفين، أو انزلاق الخلاف التجاري إلى حرب مالية شاملة، تدع الطرفين يتركان مصالحهما المشتركة، والبدء بإجراءات متطرفة للإضرار قدر الإمكان باقتصاد الطرف الآخر.
مواقع النشر (المفضلة)