وإليكم هذه النماذج العظيمة لهؤلاء النسوة العظيمات اللاتي أنجبنَ هؤلاء القمم العالية، والشخصيات البارزة التي لو قال القائل فيهن وأمثالهن
(وراء كل رجل عظيم أم عظيمة)، فما أراه أبعد النُّجعة، أو تجاوز الحقيقة أبدًا،
وسوف ترون ذلك في هذه النماذج والقصص الموجزة التي سنذكرها في هذا المقال الموجز بإذن الله تعالى
ونبدأ بربيعة بن فروخ أحد سادات التابعين، وأحد الأعلام المشهورين، فقيه المدينة المنورة وعالمها، وأحد المحدِّثين العظام،
وشيخ الأئمة الكبار مالك وأبو حنيفة والأوزاعي والثوري والليث بن سعد ... تربى في كنف أمة سهيلة
عندما خرج أبوه فروخ للغزو، وهو جنين في بطن أمه؛ حيث غاب عنهم سبعة وعشرون عامًا وهو بعيد عنهم،
فولدت سهيلة ولدها ربيعة في غيابه وربته تربية صالحة، وذهبت به إلى العلماء ليطلب العلم منذ صغره، ويتفقه على كبار التابعين
في المدينة المنورة، وصبرت عليه تشد من أزره وتعيينه في مهمته، وتحثه على طلب العلم والتزود منه بمالها ونفسها،
فكانت بمثابة الأب الذي غاب عن ابنه والأم التي تسهر على خدمة ابنها ونبوغه، فقد قضت شبابها تعلِّمه وتربيه وتُهيِّئه لهذا المنصب الكبير،
وحرَمت نفسها مِن مُتعِها، وأنهكت جسدها وهي شابة، ولكن هذا الجهد أثمر الثمرة التي كانت ترقُبها،
وأسفر عن صدق نيتها وصدق بذلها وعطائها، فأصبح ابنها الصغير أحد فقهاء المدينة الكبار،
وعقدت له حلقة في المسجد النبوي وهو لا يزال صغيرًا يجلس إليه العلماء، وتوافد على حلقته طلاب العلم، ينهلون من علمه،
ويغرفون من بحره، وأصبحت حلقته مدرسة يتلقون فيها علوم الدين والعربية والحديث والفقه.

وعندما عاد والده إلى المدينة ودخل المسجد، رأى حلقة قد اجتمع الناس عليها، ورأى شابًّا وسيمًا على رأسها،
فجلس ينظر إليه، ويستمع إلى علمه، ويُنصت إلى حديثه، فسأل من بجانبه فأخبره أنه يعرف بربيعة الرأي،
فعاد إلى بيته وهو يتذكر ذلك العالم الشاب، فقرَع الباب ففتح له ذلك الشاب الذي رآه في المسجد، فاستغرب وجوده في بيته،
فعرفته زوجته أنه رجع، فأخبرته بحقيقة ذلك الشاب، وانه ابنه الذي غاب عنه وهو في بطنها، قد أصبح اليوم كما ترى،
فسُرَّ به وكاد أن يغشى عليه من الفرح، ويطير من السعادة، يا ألله شاب يقصده الناس من كل مكان لينهلوا من علمه،
ثم علِم جهدَ تلك الأم الصالحة وتعبها وصبرها، وتحمُّلها تلك السنين الطويلة من البعد والفراق،
إنها المرأة الصالحة والأم العظيمة التي علَّمت ابنها طريق العظمة، فسارت به إليه.