تعد الشركات الحكومية أحد أهم الأسلحة الاقتصادية للعديد من الدول حول العالم، وبعيدًا عن النموذج الذي تهيمن فيه رأسمالية الدولة على الأسواق كليًا، فإن هذه الشركات كثيرًا ما تلعب دورًا جوهريًا في قيادة الأسواق أو حتى الاقتصاد في كثير من البلدان.
منذ عقود، كان النقاش محتدًا حول ما إذا كان ينبغي للدول، خاصة التي تتبنى مفاهيم رأسمالية صريحة، أن تمتلك أدوات محركة للأسواق مثل تلك الشركات، حيث يرى فريق أنه من الأنسب اقتصار دور الدولة على تهيئة السياسات ووضع القواعد المنظمة ولعب دور الرقيب.
آخرون يتهمون الشركات الحكومية، خاصة في البلدان النامية التي تعاني فسادًا واسع النطاق، بالترهل والبيروقراطية الشديدة التي تعيقها عن المنافسة ولعب دور حيوي في الاقتصاد الحديث، ولعل هذا الجدال والتشكيك في قدرة الحكومات دفع سياسات الخصخصة العميقة في أماكن كثيرة.
يتحد المثقفون وكبار رجال الأعمال بشكل متزايد في الحث على الانتقال إلى رأسمالية أصحاب المصلحة - وهو نموذج يفضل الصالح العام على القيمة المملوكة حصريًا للمساهمين.
في غضون ذلك لا تزال الشركات الحكومية ومفاهيم رأسمالية الدولة حاضرة في قلب السياسات الاقتصادية للعديد من الدول، وفي حقيقة الأمر وعكس الرأي السائد، فإن هذه المؤسسات يمكن أن تمارس دورًا إبداعيًا كبيرًا تحتاج الشركات الخاصة لمحاكاته.
الخبيرة الاقتصادية "ماريانا مازوكاتو" طرحت خيارًا مثيرًا للاهتمام في كتابها "المهمة الاقتصادية"، حيث قالت إن المشاكل المستعصية اليوم، تتطلب وجود قطاع أعمال حكومي ريادي، يعمل جنبًا إلى جنب مع الشركات الكبرى.
استهلال: نظرة على مفاهيم الرأسمالية
- للخوض في هذا الحديث، نحتاج أولًا للتفرقة بين 3 مواضيع متشابهة التسمية لكنها مختلفة التأثير (على الأقل من الناحية النظرية)، وهي رأسمالية أصحاب المصلحة، ورأسمالية الدولة، ورأسمالية المساهمين.
- رأسمالية المساهمين، هي شكل من أشكال الرأسمالية تهيمن فيه مصالح فئة محددة من أصحاب المصلحة (المساهمين) على مصالح الآخرين، وفيه تعمل الشركات لغرض وحيد هو تعظيم الأرباح وإعادة أعلى توزيعات أرباح ممكنة للمساهمين.
- أما رأسمالية الدولة، فهي شكل ظهر كبديل للنموذج السابق، وفيه تعتبر الدولة أهم أصحاب المصلحة وتحتفظ بسلطة تفوق المساهمين الأفراد، وتحاول من خلاله توزيع الموارد والفرص والتدخل في الصناعات المختلفة، وتوجيه الاقتصاد.
- سمح هذا النظام لسنغافورة والصين وفيتنام، ومؤخرًا دول مثل إثيوبيا، ببناء اقتصاد قوي ومتنامٍ، مع إبقاء مصالح الشركات الخاصة تحت السيطرة إذا لزم الأمر، في الواقع لولا رأسمالية الدول، ربما لم تشهد أجزاء كبيرة من العالم النامي طفرة نمو كبيرة على الإطلاق.
- أخيرًا، رأسمالية أصحاب المصلحة؛ أحد النماذج الرأسمالية التي يشكل فيها الأفراد والشركات الخاصة الحصة الأكبر من الاقتصاد، ويشتهر بأنه النموذج الذي يعزز الابتكار ويضمن المنافسة الحرة وإطلاق ****ان للإبداع وأخلاقيات العمل.
نماذج عفا عليها الزمن
- ليست رأسمالية الدولة فقط التي تعتبر من الماضي بالنسبة للبعض، اليوم، هناك اتجاه قوي من رموز وقادة الأعمال العالمية للدفع والدفاع عن رأسمالية أصحاب المصلحة، باعتبارها تركز على تلبية احتياجات جميع أصحاب المصلحة؛ العملاء والموظفين والشركاء وكل المجتمع، حتى أنها أصبحت الآن على شفاه كل مسؤول تنفيذي كبير تقريبًا.
- بعد خمسة عقود من الالتزام بتعظيم قيمة المساهمين، والتي وصفها "جاك ويلش" أحد أهم الرؤساء التنفيذيين في العالم وقائد رحلة نجاح "جنرال إلكتريك"، بأنها "أغبى فكرة في العالم"، تعترف الشركات الكبرى الآن بفشل هذا النهج وتدعي أنها تتبنى هدفًا جديدًا، وهو رأسمالية أصحاب المصلحة.
- في إعلانه عن بيان "دافوس 2020"، قال رئيس المنتدى الاقتصادي العالمي "كلاوس شواب" إن هناك 3 بدائل فقط (الثلاثة نماذج المذكورة سلفًا)، ووفقًا لـ"شواب" فإن كلاً من رأسمالية المساهمين ورأسمالية الدولة هما الآن "سم سياسي"، لذا يرى أن البديل الوحيد هو رأسمالية أصحاب المصلحة.
- لكنّ بحثاً حول القدرة التنافسية النسبية للشركات متعددة الجنسيات المملوكة للدولة والشركات الخاصة، أجراه "فيليبي مونتيرو" الأستاذ المساعد للاستراتيجية في كلية الأعمال "إنسياد"، قال إن هيكل الملكية لم يظهر فرقًا كبيرًا في أداء الأعمال.
- يقول "مونتيرو" إن الأداء ليس بالضرورة بديلًا للابتكار التكنولوجي الذي من شأنه أن يسمح للقطاع العام لعب الدور الاقتصادي الرائد الذي تقترحه "مازوكاتو"، وأثبتت الجائحة أن ابتكار حلول تقنية جديدة للمشاكل غير المتوقعة سريعًا أصبح ضرورة لبقاء الأعمال.- جاءت نتائج البحث بناءً على مقارنات لبيانات مئات الشركات الحكومية والخاصة لنحو 43 دولة وفي أكثر من 20 صناعة، ويقول "مونتيرو" إنه وفريقه تفاجأوا بأن براءات اختراع القطاع العام كانت أكثر تواترًا ورائدة من نظيراتها المملوكة للقطاع الخاص.
الحقيقة عكس الرائج
- يقول "مونتيرو" إن النتائج التي توصل إليها تؤكد أساسًا لفرضياته الأولية حول كفاءة الشركات الكبرى المملوكة للدول، وأنه استنتج أن "السلبيات" المفترضة لملكية الدولة، بما في ذلك الحاجة إلى خدمة الضرورات السياسية وتحقيق الربح، تعمل في الواقع على تعزيز الإبداع.
- يُترجم الضغط المنخفض لتحقيق عوائد قصيرة الأجل على الاستثمار في البحث والتطوير إلى قدر أكبر من الاستقلالية للعلماء والمهندسين وغيرهم من العاملين في مجال المعرفة، ممن توظفهم الشركات متعددة الجنسيات الحكومية.
- وجد "مونتيرو" أن الميزة الابتكارية لهذه الشركات لم تكن واحدة، حيث يمكن للحكومات التدخل في شؤونها. في البلدان النامية، مثل البرازيل (حيث نظر البحث في 12 شركة مملوكة للدولة) يمكن للحكومات توجيه الشركات إلى أهداف سياسية، لكن البلدان المتقدمة كان لديها ضوابط قوية ضد هذه التدخلات.
- خلص الباحثون إلى أن نظام الضوابط والتوازنات المتبع في البلدان المتقدمة حيث تجعل وحدات الدولة المستقلة (مثل الوكالات التنظيمية ومكاتب التدقيق ومكاتب حماية المساهمين، إلخ) من الصعب على الحكومات التدخل المباشر في شؤون الشركات المملوكة للدولة، هو ضرورة يجب تضمينها لعمل رأسمالية الدولة بالشكل الأمثل.
- من المهم هنا التأكيد على أن هذه القضية ليست مخصصة للأسواق الناشئة؛ العديد من الاقتصادات المتقدمة لديها هذه المشكلة أيضًا، وحيثما تغيب القواعد التي تحمي الشركات المملوكة للحكومة من التدخل المفرط للدولة، يظهر تأثير سلبي على الإبداع.
- في النهاية، يرى "مونتيرو" وفريقه أن الميزة الابتكارية للشركات الحكومية تنبع من الاستقلالية الإدارية وليست الجودة المتأصلة في هيكل الملكية، ويدعو شركات القطاع الخاص إلى اللحاق بالركب.
- يدعم الأستاذ الجامعي حُجته بالقول إن الابتكارات الرائجة (من "آيفون" إلى براءات الاختراع الصيدلانية) كانت مستمدة مباشرة من الإنتاج الابتكاري للوكالات الحكومية والبيروقراطيات، مضيفًا أن رأسمالية أصحاب المصلحة قد تحتاج إلى بدء الاعتراف بشكل أوسع بمؤهلات الدول في تنظيم المشاريع.
المصادر: أرقام- إنسياد- المنتدى الاقتصادي العالمي- فوربس
مواقع النشر (المفضلة)