المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أم المساكين
إن فلاح العبد في صلاح قلبه واستقامته وإقباله على ربه وأنسه به، وطاعته والحرص على نَيْل محبته، إلا أن العبد تعتريه آفات تبعده عن طريق الله تبارك وتعالى، فقد ينسى ويغفل أو يفرط ويذنب، ولا يخلو العبد بضعفه البشري من تقصير وذنب، وقد فتح الله ربنا سبحانه أبواب رحمته لعباده، ولم يقنّط عباده من رحمته، فهو التواب الرحيم الذي مَن أقبل إليه تلقاه من بعيد، ومن أعرض عنه ناداه من قريب، ومن ترك من أجله أعطاه فوق المزيد، ومن أراد رضاه أراد ما يريد، أهل ذكره هم أهل مجالسته، وأهل شكره هم أهل زيادته، وأهل طاعته هم أهل كرامته، وأهل معصيته لا يقنّطهم من رحمته؛ إن تابوا إليه فهو حبيبهم، وإن لم يتوبوا فهو رحيم بهم، يبتليهم بالمصائب ليطهّرهم من المعايب, فالحسنة عنده بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، والسيئة عنده بواحدة، فإن ندم عليها واستغفر غفرها له، يشكر اليسير من العمل، ويغفر الكثير من الزلل.. سبحانه وتعالى.
إن الله جل وعلا رحيم بنا، وهو سبحانه أرحم بنا من أنفسنا على أنفسنا، ورحمة الله تعالى وسعت وشملت كل شيء، فما من أحد إلا وهو يتقلب في رحمة الله تعالى، المسلم والكافر، البرّ والفاجر، الظالم والمظلوم، الجميع يتقلبون في رحمة الله آناء الله وأطراف النهار يطعمهم ويسقيهم ويسترهم ويعافيهم ويمُنّ عليهم ويشفيهم، قال الله تعالى: {ورحمتي وسعت كل شيء} [الأعراف: 156].
ومما يدل على عظم رحمة الله تعالى ما صح عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن لله مائة رحمة، أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوام، فبها يتعاطفون، وبها يتراحمون، وبها تعطف الوحش على ولدها، وأخَّر الله تسعًا وتسعين رحمة، يرحم بها عباده يوم القيامة".
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : "قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبي، فإذا امرأة من السبي تبتغي، إذ وجدت صبيًّا في السبي، أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار؟ قلنا : لا ، والله ! وهي تقدر على أن لا تطرحه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لله أرحم بعباده من هذه بولدها"
ورحمة الله تعالى هي التي تُدخل عباده المؤمنين الجنةَ يوم القيامة، ولن يدخل أحدٌ الجنة بعمله فقط، كما قال عليه الصلاة والسلام : (لن يُدخل أحداً عملُه الجنة) . قالوا : ولا أنت يا رسول الله؟ قال : (لا ، ولا أنا ، إلا أن يتغمدني الله بفضل ورحمة ، فسددوا وقاربوا ، ولا يتمنين أحدكم الموت: إما محسناً فلعله أن يزداد خيراً، وإما مسيئاً فلعله أن يستعتب)
وإن من رحمة الله بعباده إرسال الرسل وإنزال الكتب وتشريع الشرائع لتستقيم حياتهم على سنن الرشاد بعيدًا عن الضنك والعسر والضيق، قال تعالى : {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} [الأنبياء
ومن العبادات التي شرعها الله رحمةً بالعباد أن فرض عليهم صيام شهر رمضان ففيه أسرار وحِكَم ورحمات كثيرة، وهو باب عظيم لقطع الغفلة وتذكير الناسي وعودة الشارد، وفيه يجمع الله شتات النفوس وغفلات القلوب، ويأخذ بأيدي عباده إلى واسع رحمته.
وقد خصّ الله تعالى الصوم بأنه له من بين سائر الأعمال، وهو يجزي به، وإن كانت أعمال البر كلها له، وهو يجزي بها؛ لأن الصوم لا يظهر من ابن آدم بلسان ولا فعل فتكتبه الملائكة الحفظة، إنما هو نية في القلب، وإمساك عن حركة المطعم والمشرب. قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ، الْحَسَنَةُ عَشْرُ أمْثَالِهَا إِلَى سَبْعمِائَة ضِعْفٍ، قال اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِلا الصَّوْمَ، فَإِنَّهُ لِي وَأنَا أجْزِي بِهِ، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أجْلِي، لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ: فَرْحَةٌ عِنْدَ فِطْرِهِ، وَفَرْحَةٌ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ، وَلَخُلُوفُ فِيهِ أطْيَبُ عِنْدَ اللهظ¬ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ»، وفي هذا شرف للصوم وعلو منزلته بين سائر العبادات.
قال الإمام النووي: "اختلف العلماء في معناه مع كون جميع الطاعات لله تعالى، فقيل: سبب إضافته إلى الله تعالى أنه لم يعبد أحدٌ غير الله تعالى به، فلم يعظِّم الكفار في عصر من الأعصار معبودًا لهم بالصيام، وإن كانوا يعظمونه بصورة الصلاة والسجود والصدقة والذكر وغير ذلك، وقيل: لأن الصوم بعيد من الرياء لخفائه بخلاف الصلاة والحج والغزو والصدقة وغيرها من العبادات الظاهرة، وقيل: لأنه ليس للصائم ونفسه فيه حظ قاله الخطابي"
وقال الحافظ ابن رجب الحنبلي: "وقوله في حديث أبي هريرة (إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به) يدل على أن الصيام لا يعلم قدر مضاعفة ثوابه إلا الله تعالى؛ لأنه أفضل أنواع الصبر وإنما يوفي الصابرون أجرهم بغير حساب
مواقع النشر (المفضلة)